دعوة الروح
في إحدى العمليات الجراحية التي أجريت لشيخنا في أميركا قال الطبيب المسؤول واسمه “مكافي”: إن العملية تستغرق أربع ساعات.
بعد ساعتين خرج الطبيب.. نظرنا إليه خائفين، فقال وهو متهلل الوجه:
أنا حقاً مندهش، لقد كانت أصابعي تمر على العظام بسهولة وتعمل لوحدها، كان هناك من يساعدني، كانت هناك معونة ربانية، فعلاً لم يمر عليَّ مريض مثله من قبل!.
نظر إخواننا الأطباء إلى بعضهم وهم يبكون ويحمدون الله.
وبعد العملية أدخلوا شيخنا غرفة الإنعاش، وكنت قريبة منه، سأل عني مطمئناً إياي أنه بخير، ومن ثم تيمم وقال:
وجهوني للقبلة… وهمس:
(ما أحلى فناء الجسد في سبيل الله).
صلى الظهر ثم ناداني ثانية وابتسم لي وقال:
(الحمد لله أنا بخير)..
(لا تخافي)..
(المهم تبليغ الإسلام)..
(الله يقدرني أن أبقى لخدمة ديني)..
(الدنيا منام يا ابنتي)..
(المهم أن نخرج منها برضاء الله)..
وصار يكرر: (اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة)..
كانت دموعي تنهمر، وشفتاي تتضرعان: يا الله يا الله..
جاءت مديرة المستشفى وكانت رئيسة الراهبات -حيث أن المستشفى كان كنسياً- وقالت لشيخنا:
سمعت أن رجلاً عظيماً في مشفانا، فجئت لأباركه، وأمنحه بركة المسيح!
قال شيخنا بصوت متهدج: (أهلاً أهلاً)، ثم قال بهدوء مغمضاً عينيه: (أبناء الديانات السماوية أبناء عمومة وقرابة فأهلاً بأبناء عمومتنا).
(نحن رجال الدين مدعوون قبل غيرنا لإلغاء الحواجز فيما بين الأديان).
التفت إليه الأطباء بدهشة ووقفوا بخشوع يسمعون كلامه وعضضت على شفتي خوفاً عليه أن يرهق نفسه… وتابع شيخنا بصوت من الأعماق وهو مغمض العينين:
(يجب أن نترك الجمود والتعصب والأنانيات، واجب على كل أهل الإيمان إنقاذ الإنسان والإنسانية والتعاون على الحب والخير والعطاء).
واجب على كل أهل الإيمان إنقاذ الإنسان والإنسانية والتعاون على الحب والخير والعطاء
كانت يدي تتحرك تحاول شيئاً ما، ربما إيقافه عن بذل مزيد من الجهد، وحاولت أن أرجوه أن يرتاح فهو قد أنهى لتوه عملية خطيرة، ولكنه لم يهتم، وتابع بتصميم:
(يا ابنتي، المؤمنون إخوة، والأنبياء إخوة، وأبناؤهم مخلوقات الله، الرسالة واحدة وهي توحيد الله ومحبته وطاعته، كل ذلك لإسعادنا على هذا الكوكب، العالم الآن أصبح بيتاً واحداً)؛ وضم أصابعه منبهاً:
(لا ينبغي لساكني البيت الواحد أن يتقاتلوا، أو يؤذي بعضهم بعضاً، أو يضمر بعضهم لبعض عداوة أو شراً، فالناس كلهم خلقوا من نفس واحدة.
كيف نفعل ذلك والله جل شأنه يقول:
{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ }([1])).
وكرر: (من نفس واحدة، من نفس واحدة)…
الإيمان وحده الدواء الناجح لشفاء هذا العالم
ابتلعت دموعي وناديته: أرجوك أرجوك!
تابع بضعف: (الإيمان جاء لتكريم الإنسان كل الإنسان وإسعاده، نحن الآن في معاناة كبيرة، والمستقبل خطير للإنسانية، والإيمان وحده الدواء الناجح لشفاء هذا العالم.. فلنعد إلى الله وتعاليمه التي جاءت لسعادة الإنسان، كل الإنسان، ولنتعاون لإعادة الإخاء والحب والسعادة إلى كل إنسان، وإلا فالمأساة قادمة وستحل بنا جميعاً).
الإيمان جاء لتكريم الإنسان كل الإنسان وإسعاده
الإيمان وحده الدواء الناجح لشفاء هذا العالم
بهتت رئيسة الراهبات وصارت تبكي، وانحنت أمامه بخشوع قائلة:
باركني فليباركك الله، باركني فليباركك الله، أنت حقاً إنسان مبارك.
كان الدكتور “أويس الطرقجي” يترجم الحديث وهو يحبس دموعه مشفقاً على شيخنا.
نظر الأطباء بإجلال مندهشين وقالوا: رجاءً دعوه، إنه ما زال تحت تأثير المخدر، ما أسرع ما تكلّم!!.
رنا إلينا بحنان ثم سرعان ما غطّ في نوم عميق وقد ارتسمت على وجهه علامات الارتياح.
بعد يومين عادت رئيسة الراهبات شوقاً إلى كلمات شيخنا المليئة بمحبته للإنسان كل الإنسان.
حاولتُ أن أعرّفه عليها، وأذكّره بما دار بينهما، ولكنه لم يذكر شيئاً!.
فقالت الراهبة: مرَّ عليَّ يومان لم أنم فيهما، لقد غيرت معنى الإسلام في قلبي وعقلي، أشكر الله الذي أتى بك إلى مشفانا لأتذوق معنى الإيمان الحقيقي.
رحّب بها وهو يحاول أن يجلس بمساعدة الطبيب “أويس” الذي قال لي: كان شيخنا تحت تأثير التخدير حين تحدّث إليها، لذلك لن يتذكرها.
اطمأنَّتْ على حالته، وأخبرتنا بأنها أوصت الجهاز الإداري والطبي ببذل فائق العناية لهذا الرجل المبارك، ثم عادت وانحنت أمام سريره وقالت:
باركني أيها الشيخ، لقد بعثت روحي ثانية، لقد غيرتني تماماً؛ كلماتك دخلت أعماقي وأحيت عزيمتي لأخدم الجميع، فعلاً إنك إنسان عظيم، فليباركك الله، شرفت مشفانا.
قال شيخنا متسائلاً: (يا ترى لو نزل سيدنا محمد وسيدنا المسيح هل يتعانقان أم يتشاجران؟..) فصارت تبكي.
يا ترى لو نزل سيدنا محمد وسيدنا المسيح هل يتعانقان أم يتشاجران؟
فتابع شيخنا بحنان: (يا ابنتي، الإنسان هو الإيمان، إذا لم يمتثل أوامر الله فما هو إلا وحش أو حيوان أو شيطان).
الإنسان هو الإيمان، إذا لم يمتثل أوامر الله فما هو إلا وحش أو حيوان أو شيطان
نظرتْ إليه ملياً وقالت: فعلاً لقد عرفتَ الحقيقة.
وتابع شيخنا بجهد: (ما أحوج إنسان هذا العصر الجائع في روحه وإيمانه وعقيدته، الغافل عن ربه وصلته به، إلى أن يعود إلى تعاليم الله، وإلى الإيمان الحقيقي).
قربتُ كأس الماء إلى شفتيه لعلَّه يرتاح من عناء الكلام، فبلل شفتيه وتابع بقوة وتصميم:
(نحن رجال الدين بحاجة إلى ثورة إيمانية متجددة مخلصة شجاعة، لنعيد الإيمان الحقيقي إلى نفوسنا ونفوس من حولنا، ونعمل بما يحب الله وبما يرضيه عنا ريثما ننتقل إلى جنته الأبدية).
ردَّدَتْ: آمين آمين.
تنهد طويلاً ثم تابع: (لا بد لنا أن نتقارب، نحن رجال الدينَيْن إخوة؛ الأنبياء إخوة؛ آن لنا أن نتعاون جميعاً لنعيد السلام، والطمأنينة لهذا العالم المتمزق، وإلا فالخراب والدمار سيحل ليس بالإنسان فقط، بل وبالحيوان وبالبيئة وبكل حياة على هذا الكوكب).
حاول أن يتحرك بصعوبة، وأغمض عينيه ألماً وتابع بصوت عميق: (الإيمان ليس انتماءً وادعاءً؛ الإيمان ليس طقوساً جسدية بلا روح.
جاء الإيمان لتصنيع الإنسان الإنساني، وليرقى به من صفاته الحيوانية الوحشية إلى صفات ملائكية ربانية، لحياة أبدية، لجنَّة بلا حدود).
حاول الطبيب رفع السرير علَّه يخفف عنه الألم، وتابع شيخنا بتصميم: (لنحبّ كل مخلوقات الله، ونساعدهم ونعمل لأجلهم، ونخلصهم من مشكلات الفقر والجهل والتسلّط؛ الله خالق الجميع ويجب أن نخدم الجميع، ونرعى أرواحهم لتتصل بالله فتسعَدَ وتُسْعِدُ).
تمتمت رئيسة الراهبات بحزن: الله حقاً خالق الجميع، ويجب أن نخدم الجميع؛ حقاً كم غابت عنَّا تلك المفاهيم والقيم، نحن آسفون.
قال شيخنا: (يقول محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الخلق كلهم عيال الله، وأحب الخلق إلى الله أنفعهم لعياله»([2])…
إذا لم يحصل السلام بين الإنسان وخالقه، ولم يمتثل أوامره، فلن نحصد السلام على الأرض.
إذا لم يحصل السلام بين الإنسان وخالقه، ولم يمتثل أوامره، فلن نحصد السلام على الأرض
السلام يبدأ في أعماقنا وتعاليم الله جاءت كلها لتدلنا على السعادة والسلام، وحتى الإخاء والرحمة فيما بيننا).
تمتَمَتْ بخجل: صدَقْتَ صدَقْت! أنت إنسان عظيم، لقد حددت الهدف، لقد تبارك مشفانا بوجودكم.. أنت طبيب والعالم مريض.. وأسأل الله لك طول العمر لتكون الدواء لهذا العالم المريض، وأرجو أن ترتاح.
لَمَسَتْ غطاء السرير بخشوع وهي تقول:
آمين، آمين.
تراجَعَتْ إلى الوراء بهدوء واحترام وهي تردد لنفسها: الإنسان هو الإيمان، وإلا فهو وحش أو حيوان… السلام يبدأ في أعماقنا، حتى يظلل مَنْ حولنا.
التفتَ إلَيَّ وهو يحاول أن يتمدد لأساعده، فأسرع الطبيب يحاول مساعدته وهو يغالب دموعه.
ردَّدَ شيخنا: (يا ابني، الناس كلهم بخير، المهم أن ننقذهم من أنفسهم قبل فوات الأوان، المهم أن يتعرّفوا على حقيقة الإسلام والسلام).
وسرعان ما أغمض عينيه -وابتسامة رائعة، وهدوء نوراني غطى وجهه- وهو يتمتم: (أرجو أن أكون قد أديت بعض الأمانة).
([1]) سورة النساء، الآية: (1).
([2]) المعجم الكبير للطبراني عن عبد الله بن عباس رضي الله عنه، (8/191).