الإيمان توازن للروح والجسد

الشيخ أحمد كفتارو
الإيمان توازن الروح و الجسد

الإيمان توازن للروح والجسد

الشيخ أحمد كفتاروالثلاثاء – حزيران 1996

كان الوقت ربيعياً، والشمس حانية دافئة تصل إلى قلوبنا بلطفها متسللة عبر نوافذ الصالون، ذكرنا الله مع الأخوات وتذاكرنا عبارات شيخنا في محاضرة الجمعة الفائتة، وبدأت الأخوات بالمغادرة، رأينا شيخنا يتمشى مع شباب المزرعة، ثم جلس على الكرسي الحجري، فتسابقنا إليه نادانا بعد أن صرف الإخوان وقال لنا بحنان:

هنيئاً لكنّ مجلس الذكر، مجلس الملائكة، رياض الجنة في الأرض.

أخرجت الأخوات دفاترهن ليكتبن وتابع شيخنا: والله لو أتيتم حبواً فأنتن الرابحات، المسلم بلا ذكر بطاريته فارغة، فمن أين له بالطاقة الروحية؟

هذه هي الزوادة الحقيقية للتقوى، حيث يفاض عليه العلم اللدني، الإنسان الخام ينساق مع شهواته وغرائزه حتى تتسلط عليه، فلا يستطيع الاتجاه إلى الحق، فيفقد إنسانيته ويصبح حيوانياً في تطلبات جسده وشهواته، كما قال تعالى:

{  أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ }([1]).

الغافلون عن أوامر الله المتناسون لها، الرافضون لما أنزل الله، أما المؤمن الذاكر فتهيمن روحه على جسده، وتحلق به إلى المعالي في كل حياته، فيكون الله رقيبه، وجليسه، وقائده في كل أعماله.

جلسنا على الأرض ونحن نرنو له بحب فتابع:

الإيمان يا بناتي توازن للروح والجسد حتى يعيش دنياه ولا ينسى آخرته – افتقدت إحداهن قلمها فأعطاها قلمه- وهو يقول: اعملوا وسارعوا قبل فوات الأوان، أمل ولا عمل تلك هي الأماني

الإيمان توازن للروح والجسد حتى يعيش دنياه ولا ينسى آخرته

ماذا يقول الشاعر فقلت متحمسة:

وما نيل المطالب بالتمني    ولكن تؤخذ الدنيا غلابا

نظر إليّ بسعادة وقال: أحسنت ما شاء الله ولكن هذا البيت فيه خطأ تؤخذ الدنيا غلابا، عراكا، لا: تؤخذ الدنيا تعلماً وحكمة، وتواضعاً ولطفاً، وتخطيطاً وكله تحت مظلة تعاليم الله ورسوله

تؤخذ الدنيا تعلماً وحكمة، وتواضعاً ولطفاً، وتخطيطاً

قال ربنا الكريم:
{وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ }([2]).

هذا خطابه لنبيه الكريم يعني لولا إلهام الله له باللطف والرحمة لتركوه وما قام الإسلام، لذلك بناتي للوصول إلى الهدف يلزمنا أن نفهم من أين نبدأ وبنيه [إلهي أنت مقصودي ورضاك مطلوبي] عندها يتحقق الهدف ويصبح له طعماً آخر وخيراً للجميع، ابتسم شيخنا لهن وتابع: ….

عظمة الإنسان هدفه، علمه عمله إنجازه ثمراته أخلاقه إصلاحه للآخرين، العوام لا تفكير ولا انتباه لجوهر الأمور نفس حيوانية وشهوات ورغبات ولغو ونوم قال تعالى:

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ}([3]).

البذرة الصغيرة إذا أعطيت حقها تصبح شجرة وارفة الظلال حلوة الثمار، احرص على أن لا تكنّ مسلمات الاسم جاهليات الأخلاق والسلوك ورفع يديه داعياً:

الله يعطيكم طافة الجر وأن تكونوا جارين لا مجرورين ما من أحدٍ مستثنى من المسؤولية وكلنا مسؤولون ومحاسبون وسنقف أمام الله تعالى الذي قال { وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ}([4]).

المسلمون نيام ولكن بحاجة لمن يوقظهم بلطف قبل أن يسحقهم قطار الإفساد.

المسلمون نيام بحاجة لمن يوقظهم بلطف قبل أن يسحقهم قطار الإفساد

([1]) سورة الأعراف، الآية: (179).

([2]) سورة آل عمران، الآية: (159).

([3]) سورة التوبة، الآية: (38).

([4]) سورة الصافات، الآية: (24).

الأهم خروجنا من أمية السماء

الشيخ أحمد كفتارو
الأهم خروجنا من أمية السماء

الأهم خروجنا من أمية السماء

الشيخ أحمد كفتارونال بعض الإخوان والأخوات درجة الدكتوراه في العلوم الشرعية من مجمع شيخنا، فجاؤوا ليزفُّوا إليه بشرى نجاحهم، ولِيُدخِلوا السُّرور والسَّعادة على قلبه، بثمرةِ تعبه وجهده.

دخلوا إله فرحين مسلِّمين، رفع يديه رادّاً التحية باشَّاً: (أهلاً وسهلاً، أهلاً وسهلاً، أهلاً وسهلاً… السلام عليكم ورحمة الله وبركاته).

وابتسم وقال بقوَّة: (كان الصحابة أمّيّين، لا كتب ولا مكتبات ولا برامج ولا شهادات).

غصَّ الأخوة طرْفَهم حياءً..

فتابع شيخنا: (كما قال الشاعر:

كانوا رعاة جمال قبل نهضتهم   …….)

وصَمَتَ حتى يردِّدوا معه تتمة بيت الشعر، فقالوا وقد نظروا حيارى:

“……..   وبعدها ملؤوا الآفاق تمدينا

تابع شيخنا: (عِلْمُهُم أنتج الأخلاق في قِمَّتِها، وأنتج العزَّة والكرامة في ذروتها، وأنتج الغنى والثروة بأعظم وسْعَتِها.. ووحَّد الأمة بأقوى ما تكون، وما عرفوا الهزائم في معركة مع أغنى دول العالم، وأعظمها جبروتاً وعدداً وعُدَّة.

هذا كله أتى من صُحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن العلم الذي وضَّحه المفهوم القرآني: { وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ } ([1]).

وهذا العلم الرَّباني دعاهم ليكونوا ورثة حقيقيين لرسول الله صلى الله عليه وسلم في تبليغ الدعوة والإسلام إلى مشارق الأرض ومغاربها.

حملوا الإسلام دعوة وجهاداً وتبليغاً حتى وصل الإسلام إلى ما وصل إليه، ونحن ماذا فعلنا؟!، وماذا يجب أن نفعل؟..).

نظر إليهم بحنان وتابع: (منهاج الله للنَّجاح والنَّصر جاهز.. فماذا فعلنا به؟.. نقرؤه بركةً وأنغاماً وتجويداً.

عندما نهزم الجهل والجاهلية في نفوسنا وفي غيرها بالحكمة والموعظة الحسنة، نصبح ذلك الإنسان الرباني الذي أراده الله لنا، ونرفض أن نكون الإنسان الحيواني.

فلا يكون همُّنا مثل الدَّواب: أكلٌ وشربٌ وتوالد وتزاوج ودفاعٌ عن حياة الجسد. بل نكون كما قال الله تعالى: { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا}([2]).

عندئذٍ نكون مصابيح للهداية في ظلمات الليالي والأيام، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «العلماء مصابيح الأرض، وخلفاء الأنبياء، وورثتي وورثة الأنبياء»([3])، «إنَّ العالم ليستغفر له من في السموات ومن في الأرض والحيتان في جوف الماء»([4])

كرر شيخنا، (يقول الله تعالى:

{وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} ([5]).

فالتقوى: علمٌ وعملٌ بامتثال أوامر الله، والبُعدُ عن كلِّ ما نهى الله، وتقوى القلوب خاصة للخواص.

تقوى القلب بأن لا يغفل عن ذكر الله، وألا يحبَّ شيئاً أكثر من الله. وهذا معنى أن تشهد ألا إله إلا الله، لا أن تقول وتُردِّد فقط: لا إله إلا الله؛ أي لا معبود إلا الله، ولا مُطاع إلا الله… لا هَمَّ لك سوى رضاء الله… عندها يقذفُ الله في قلبك النور والعلوم.

الدَّعوى والادّعاء سهل… أن تدعي أنَّك وزير!.. قد يطاوعك لسانك.. ولكن هل يُصدِّقك الآخرون؟..).

ثم نظر إليهم بحنان قائلاً: (أحبابي، جُدُّوا واجْتَهِدوا… الشَّهادة قراءةٌ وإطارٌ ولا بُدَّ منها، ولكنها لا تُوجِد الإيمان، ولا تغمرُ القلبَ بمحبّة الله… الدنيا منامٌ والعُمرُ يمضي… والزمان لا يصنعُ الإنسان، بل الإنسان هو الذي يصنع الزَّمان… يصنعُ حاضِرَهُ وغدَهُ، ومستقبله الدنيوي والأخروي، لما قاله تعالى: { وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ}([6]).

الزمان لا يصنعُ الإنسان، بل الإنسان هو الذي يصنع الزَّمان

يعني افحص أعمالك قبل أن يأتي الموت… الموتُ ليس عدماً، الموتُ حساب… يعني صار وقت الحساب كما يقول الشاعر:

ولو أنَّا إذا متنا تركنا         لكانَ الموتُ راحةَ كلِّ حيّ

ولكنَّا  إذا  متنا  بُعثنا        ونسألُ بعدَها عن كلِّ شي

الإنسان يُشرِّف الزمان ويقدِّسه بهمَّتِه وهدفه وعمله وثمراته… أشرف العصور صنَعَها محمد صلى الله عليه وسلم ولولا سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ما قيمة العرب؟!.. كل العرب؟!.

الإنسان يُشرِّف الزمان ويقدِّسه بهمَّتِه وهدفه وعمله وثمراته

لولا سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ما قيمة العرب؟!.. كل العرب؟!

أحد العلماء الأجانب يقولُ: “لو وُجِدَ للغة اللاتينية كتابٌ مقدس كالقرآن لما تفرَّقت اللغة اللاتينية إلى عشرين لغة”.

عصر القومية دسيسة دسَّها الأعداء ليفرِّقونا… الإسلام يقدِّس الوطن والعروبة، فإذا خان المسلم الوطن فقد خان إسلامه.

يقول رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم: «حبُّ العرب إيمان وبغضهم نفاق، فمن أحبهم فبحبِّي أحبَّهم»([7])).

نظر إليهم بحنان وقال: (أبنائي؛ الإنسان بأصغريه قلبه ولسانه، ولا شيء يُنال بالتمنِّي والكسل، جِدُّوا واجتهدوا واعملوا لتصلوا إلى ما وصل الأوائل).

كانوا يرنون إليه بحبٍّ وخجل، وتكلموا بصوتٍ خفيض: إن شاء الله.. إن شاء الله.

فردَّ بحماس: (لقد شاء الله هدايتنا، وأرسل لنا كتابَهُ ورسالته مع حبيبه المصطفى محمد صلى الله عليه وسلم، شاءَ اللهُ وقدَّر لنا كلَّ الخير.

المهم أن تكون مشيئتكم كما يحبُّ الله وكما يرضى).

تنهَّد وصمتَ قليلاً ثم تابع: (الفرق بين الرِّجال عند الإرادة.. يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «صوت أبي طلحة في الجيش خير من ألف رجل»([8])، صوته لا سيفه، فكيف بشخصِهِ كله؟!… الإسلام صنع الإنسان الفولاذي: ليسانس.. ماجستير.. دكتوراه.. ثم مدرسة الروح والقلب والعقل.

المهم أن نخرج من أميّة السماء.. وبعدما حصَّلتموه من درجات العلم، عودوا لِلْمَسْبَحَةِ، لذكر الله بالخلوة مع الله، والعكوف والإنابة إليه.. خذوا دكتوراه في القلب، في ثقافة الروح، في تذوّق حب الله، في الشعور بمعيَّة الله ومراقبته لنا في كل أمورنا.

آمل من الله أن يحقق فيكم أملي ولا يُضيّع تعبي، وتكونوا دعاة حقيقيين علماً وتعليماً وأخلاقاً وحالاً، قدِّروا النعمة التي أنتم فيها، وقدِّروا فضل الله عليكم، واشكروه عملاً وقولاً وقلباً، كما قال تعالى:

{ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا} ([9]).

لا تكونوا مِمَّن قال فيهم الشاعر:

فهذا الذي إن عاش لا يُحتفى به

وإن ماتَ لم تحزن عليه أقاربه

ليكن لكم بصمة نورانيّة في المجتمع عامَّة وعلى من حولكم خاصة).

ليكن لكم بصمة نورانيّة في المجتمع عامَّة وعلى من حولكم خاصة

صمت الشيخ قليلاً، ثم تابع بحزن: (في أوائل شبابي عندما جاء الاحتلال الفرنسيّ، دعاني العلماء والمشايخ إلى قراءة صحيح البخاري  بنية تفريج الكرب… دُهشْتُ وخجلتُ!… وأنا يافعٌ بالنسبة لهم، وقلت لهم: كيف فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في مثل هذا الظَّرف؟ هيّأ السِّلاح!.. حفر الخندق!.. لبس الدرعين!.. قام بالتحضير للحرب بإعداد العدَّة للدِّفاع وصدِّ العدوان… أين فقه: {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ} ([10])؟ ماذا تفيد القراءة دون فهم أو عمل؟!.. دون اتخاذ الأسباب والمسببات؟!..

ماذا تفيد القراءة دون فهم أو عمل؟!.. دون اتخاذ الأسباب والمسببات؟!

هذا كله إلغاء للعقل وتهميش له. والله يقول ويكرر في كتابه الكريم: أفلا تعقلون؟! أفلا ينظرون؟! أفلا تتفكرون؟! أفلا يتدبرون؟! أفلا تسمعون؟!).

وعلا صوته: (يا أولي الألباب… يا أولي الألباب…).

تنهَّد شيخنا وأغمض عينيه… نظرَ الإخوانُ مشفقين، ثم تابعَ وهُوَ يهزُّ رأسَهُ:

(سبحان الله! إذا سألت أحداً: كيف حالك؟ كيف صلاتك؟ كيف قلبك؟ يُردِّد بأسى: “ماشي الحال، عم ندفِّش…” هذه الكلمات تحفرُ فراغاً في نفسك!.. في عقلك!.. لا تملؤوا عقولكم بالسَّخافات!… بالسلبيات والخرافات!… بالشهوات الطفولية!… املؤوا قلوبكم بالأسمى، لا ترضوا بالفتات!..

املؤوا قلوبكم بالأسمى، لا ترضوا بالفتات! واملؤوا قلوبكم بحب الله ورسوله ونصرة دينه

املؤوا قلوبكم بحب الله ورسوله ونصرة دينه… خطِّطوا لتعميق بناء الإسلام في كلِّ مَنْ تلتقون… إذا كنتم تملكون القدرة فمتى تفعلون؟… متى تبدؤون؟…

انتبهوا أن تتفلت زمام الأمور من بين أيديكم.. انتبهوا وحوِّلوا من حولكم من الأدنى إلى الأعلى.. انفحوا فيهم من روح الإيمان والإسلام).

نظر إليهم واحداً واحداً ثم قال: (الكل يخطط لنا الشرَّ والفساد، ومن مئات السنين… وبتصميم وبرنامج خبيث وميزانيات هائلة، ونحن غائبون.. غافلون.. مذهولون.. مشغولون بالأدنى، بسفاسف الأمور، بظواهر الأحكام وشكلية العبادات.

يا أبنائي، أنتم مسؤولون عن إعادة الروح الحقيقية للإسلام، وللنهوض بالجميع، لتكونوا رحمة للعالمين،{وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}([11]).

الدين يعالج المشكلات قبل وقوعها، كتحريم الخمر والزنا والربا، يداوي أسبابها قبل أن تصبح أمراضاً خطيرة… قبل أن يستشري خطرها في المجتمع ويستعصي الحل والمعالجة، ولكنها عندما تقع لا يقفُ مكتوف اليدين، بل لكلِّ حادثٍ ومشكلةٍ حلٌّ في الإسلام.

وصدق الله العظيم: { مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} ([12])، فاقرؤوا القرآن بتمعن:{ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}([13]).

وسيكون لكم شأن عظيم إن شاء الله، ولا تيأسوا، فاليأس لعبة الكسالى، اليأسُ موتٌ قبل الموت… اليأسُ هو فقدُ الإرادة، مما يثير العجز والكسل والعدم، وبقاء الأمر على ما هو عليه.

 المهم الولادة القلبية، الروحية، الإيمانية، العقلية، حتى نبدأ بالتغيُّر والتغيير).

ثم نظر إليهم بودٍّ وتوجَّه وتابع: (السابقون قصدوا وأرادوا وعملوا فكان لهم فوق ما أرادوا بفضل الله ورحمته… لا تكونوا كالأرض السبخة، لو نزلت عليها بحار السماء لا تنبت شيئاً… كونوا شمس بلادكم، كونوا كالغيث أينما تحلّون يزهر الربيع وتكون الظلال والثمار.

كونوا شمس بلادكم، كونوا كالغيث أينما تحلّون يزهر الربيع وتكون الظلال والثمار

وفقكم الله لتكونوا أطباء القلوب والعقول، لتكونوا الشفاء للمجتمع كله بكلِّ أجزائه وشرائحه.

وفقكم الله لتكونوا أطباء القلوب والعقول، لتكونوا الشفاء للمجتمع

جِدُّوا واجتهدوا واعملوا، فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون… واتقوا الله إن الله لا يضيع أجر المحسنين).

وختم حديثه بقوله: (آمل أن تحققوا ما أردته لكم، وما خلقكم الله له).

ودمعَتْ عيناه وأنَّ بصوتٍ مسموع، فتهيَّأ الأخوة والأخوات للسلام والذهاب ومسح وجهه وهو يردِّد: (وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين).

ربيع 1999

([1]) سورة البقرة، الآية: (282).

([2]) سورة الشمس، الآية: (9-10).

([3]) أخرجه ابن عدي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وصححه المناوي.

([4]) رواه الترمذي وأبو داود وابن ماجة وابن حبان في صحيحه، وفي رواية لابن النجار عن البراء: «العلماء يحبهم أهل السماء وتستغفر لهم الحيتان في البحر إذا ماتوا إلى يوم القيامة».

([5]) سورة البقرة، الآية: (282).

([6]) سورة الحشر، الآية: (18).

([7]) رواه الدارقطني في الأفراد، والبيهقي في شعب الإيمان عن البراء رضي الله عنه.

([8]) رواه الدارقطني في الأفراد، والبيهقي في شعب الإيمان عن البراء رضي الله عنه.

([9]) سورة سبأ، الآية: (13).

([10]) سورة محمد، الآية: (7).

([11]) سورة النحل، الآية: (93).

([12]) سورة الأنعام، الآية: (38).

([13]) سورة الأنفال، الآية: (45).

الخلق كلهم عيال الله

الشيخ أحمد كفتارو
الخلق كلهم عيال الله

الخلق كلهم عيال الله

الشيخ أحمد كفتارومرَّةً كان يمشي في فسحة البيت في مضايا فسألني باهتمام: (هل عندك برغل ناعم؟).

قلت: نعم، ماذا تريد؟ هل أعمل لك تبولة؟

قال: (لا، ولكن أحضري كمشة).

جاءت الأخت مها مسرعة وأعطتني قبضة البرغل الناعم.

قال بحنان: (ضعي البرغل أمام بيت النمل!.).

دهشت، ولكن بادرت بالامتثال، وجاء النمل من كلِّ مكان ينقل الذخيرة المفاجئة، ذخيرة الرحمةِ والحبِّ لكلِّ مخلوقاتِ الله.

ولم نجاوز المكان حتّى فرغ النمل من نقل طعامه الأثير إلى داخل قريته وشيخنا ينظر بسرور بالغ واهتمام قائلاً: (لم يضيِّعوا الفرصة، ولم يخافوا، ولم يتردَّدوا بل سارعوا إلى التَّزوّد بالخير لَمَّا رأوه).

تابع بحنان: (هناك سورة كاملة للنمل تحكي حرص النمل على حياة بعضهم البعض وإنذارهم بأنَّ جند سليمان قد يدوسونهم بدون قصد، ومع ذلك لا نتعلَّم ذلك من سورة النمل ولا نُقلِّدهم.

رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «بينما كلب يطيف بركية كاد يقتله العطش إذ رأته بغي من بغايا بني إسرائيل فنَزَعت موقها فسقته فغفر لها به»([1]).

و«عُذِّبَتِ امْرَأَةٌ فِى هِرَّةٍ سَجَنَتْهَا حَتَّى مَاتَتْ فَدَخَلَتْ فِيهَا النَّارَ لاَ هِىَ أَطْعَمَتْهَا وَسَقَتْهَا إِذْ حَبَسَتْهَا وَلاَ هِىَ تَرَكَتْهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الأَرْضِ»([2]).

الخلق كلُّهم عيال الله، وليس الإنسان فقط، فالرحمة للجميع، ورحمته أكبر من رحمة الأم بوليدها…  قال الله تعالى:

{ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} ([3])).

صيف 2004

([1]) متفق عليه.

([2]) متفق عليه.

([3]) سورة الأعراف، الآية: (156).

الحضارة الغربية عرجاء

الحضارة الغربية عرجاء

الحضارة الغربية عرجاء

الشيخ أحمد كفتارو مع روجيه غاروديلقاء مع روجيه غارودي (2) 31/7/1996

جلسنا مع الدكتور رجاء غارودي وزوجته سلمى الفاروقي، حضرت الجلسة الأخت سوسن سلوم وبعض الأخوات والإخوة فبادر الدكتور روجيه قائلاً: أنا مدين لسماحة المفتي ليس لأنه استضافني في بيته فحسب بل لأنه علمني الكثير فقد اطلعني منذ سنوات على شروط تطبيق حد السرقة، وعلى حديث أبي داود وبفضله كنت أنقل هذه المعلومات والأحاديث كثيراً في مقابلاتي ودفاعي عن الإسلام.

اعتدل شيخنا في جلسته قائلاً: لم يشرع الله قطع اليد لتكون محنة أو بلاءً على الإنسان بل شرعها لمصلحته وسعادته المهم حسن تطبيقها، هذه الحدود مقررة ومؤكدة في الإسلام، ولكن مع ذلك جعل لها ضوابط متعددة حتى لا تُنفَّذ، فقال صلى الله عليه وسلم بما يشمل كل الحدود والعقوبات «ادرؤوا الحدود بالشبهات»([1]).

هذا خطابه للقضاة والمحامين وما قال بالشبهات فقط بل قال «ادرؤوا الحدود ما استطعتم»([2]) يعني ابذلوا كل الطاقات حتى لا تنفِّذوا قطع اليد ولا تجلدوا الزاني ولا تقتلوا القاتل فهذا التعليم النبوي القوي والتعليم العملي لدرء الحدود حتى لا تقام فلا تقطع الأيدي ولا يجلد الزاني حيث جاءه رجل يعترف بذنبه من الزنا، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «لعلك قبلت لعلك لامست» فيقول الرجل: لا زنيت فطهرني لأنه لا يريد أن يلقى الله بالذنب ويريد الله أن يغفر له بالدنيا والتطهير بالرجم فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «ائتني غداً» فأتاه غداً واعترف نفس الاعتراف، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول له: «لعلك قبلت» (لأن هذا لا يوجب الرجم)، قال: لا زنيت فطهرني وظل يرده أربعة أيام والمذهب مصر بدافع إيمانه أن يتطهر من هذا الذنب والنبي يدفع الرجم بالشبهات، فسأل الحاضرين ليدرأ عنه الحد: «هل هو مجنون» قالوا: لا فحاول الرسول أن يسأله توضيح ما أذنب لحفظ حياته لعله يتراجع ليدرأ عنه الحد فأجاب نعم وبأوضح جواب، كان النبي يحاول أن يعمل له خمسين مخرجاً وحبلاً للنجاة، ولكنه لا يريد إلا أن يطهره بالرجم فقال صلى الله عليه وسلم: «خذوه فارجموه» فلما أسلمته الحجارة، قال: ردوني إلى محمد فما ردوه فبقوا يرجمونه حتى مات، فلامهم رسول الله وقال: «لو رددتموه»([3]).

إن الحضارة الغربية عرجاء تشبه إنساناً بلا مشاعر، طورت المادة وأهملت الإنسان، جعلت من الشمعة مصباحاً وحولت الدابة إلى سيارة ثم إلى طيارة وطورت السيف فصار بندقية ثم مدفعاً ثم قنبلة نووية مهلكة للبشر والحيوان والبيئة ولكنها لم تصنع شيئاً بإنسانية الإنسان بل ارتد بها إلى انتكاسة مادية مخيفة فأصبح يعيش أهم أيامه على الأرض من تسلط وقهر وشر صار قرننا طافح بالدماء والحروب والمآسي وعلينا الآن التعامل مع هذا الواقع.

إن الحضارة الغربية عرجاء تشبه إنساناً بلا مشاعر، طورت المادة وأهملت الإنسان

يجب أن نضاعف جهودنا وعلى أساس أطباء مرشدون برفق وأناة وعلم وحكمة.

حتى ننقذ أنفسنا ومن حولنا كما أراد الله لنا.

[1])) رواه الحارثي في مسند أبي حنيفة عن ابن عباس مرفوعاً.

[2])) جامع الأصول: 1932 / ج3/ ص602.

[3])) المستدرك: 1051 / ج4 / ص361، وصحيح البخاري: 6824 / كتاب الحدود / باب: هل يقول الإمام للمقر، لعلك لمست أو غمزت.

أريدك رحمة للعالمين

الشيخ أحمد كفتارو
أريدك رحمة للعالمين

أريدك رحمة للعالمين

الشيخ أحمد كفتاروكان الوقت ربيعياً بارداً، وقبل الفجر بساعتين استيقظ شيخنا، وتناول حبة خفيفة للنوم.

لمسْتُهُ بحنان: ما بك حبيبي؟ هل تريد شيئاً؟.

قال: (أرقتُ قليلاً، وأنا أفكِّر بالإسلام وتقصيرنا تجاهه، لقد رأيت أحد الزعماء في المنام، وقلت له: يجب أن نبذل أقصى جهدنا؛ يجب أن نسارع في العمل والبحث دائماً عن الحلول لعل وعسى).

ثم قال لي: (والله يا بنتي ليلي ونهاري حتى في نومي لا يشغلني إلا الإسلام والمسلمين).

رجوته أن أسقيه كأساً من اللبن فوافق بوداعة، وشرب القليل منه.

لم أستطع النوم بعدها، سبحان الله كيف يشغله الإسلام رغم كل ما يبذله من جهد وتعب.

عندما أيقنتُ بأنَّه قد نام ثانيةً، قمتُ بهدوء وتوضّأتُ لأصلِّي ركيعات قبل الفجر أدعو الله عز وجل فيها أن يشغلني به عمن سواه.

لم أُتِمّ ركيعاتي حتى أحسّ بي فنظر إليَّ عاتباً: (ما شاء الله، تصلِّين ولا توقظيني؛ أين: «رحم الله رجلاً قام من الليل فصلى وأيقظ امرأته فإن أبت نضح في وجهها الماء.. رحم الله امرأة قامت من الليل فصلت وأيقظت زوجها فإن أبى نضحت في وجهه الماء»([1])).. وقام مسرعاً ليتوضّأ.

سلَّمت بسرعة ولحقته حتى أساعده، وأغلق الأبواب والنوافذ التي فتحتها لتغيير هواء البيت حتى لا يشعر بالبرد، فأغلقتها بسرعة فأحدث باب الألمنيوم المؤدي للشرفة صوتاً قوياً.

نظر إليَّ بحنان ثم قال: (أنا ما بدي علمك، أنتِ بتعرفي بس بدي ذكّرِك.

{ وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ}([2]).

كنتِ تستطيعين رفع الباب قليلاً حتى لا تحدِثي هذا الصوت).

نظرتُ إليه آسفة بعينين مغرورقتين بالدموع لأنَّه كان يعزُّ عليَّ أن أزعجه.

فقال: (بابا أنا أحبك، أريد نقلك من النقص إلى الكمال.. أريدك رحمة للعالمين).

([1]) أخرجه الحاكم في المستدرك عن أبي هريرة رضي الله عنه وقال صحيح على شرط مسلم.

([2]) سورة الذاريات، الآية: (55).

بصدق الإرادة يتحقق كل مراد

الشيخ أحمد كفتارو
بصدق الإرادة يتحقق كل مراد

بصدق الإرادة يتحقق كل مراد

الشيخ أحمد كفتارودخل شيخنا مبتسماً بلباسه الأبيض المعهود، وكل ما فيه يرحب بضيوفه طلاب الشيشان الذين يدرسون في المجمع، وكان يردد:

(بسم الله، ما شاء الله).

عندما جلس نظر إلى الجميع وحياهم واحداً واحداً وهو يلقي التحية: (السلام عليكم). بوجهه ويديه حتى تحول إلى كتلة سلام ونور.

كان الجميع ينظرون إليه مبهورين مبتسمين، يلوح على وجوههم البشر والسعادة بلقائه.

قال: ({وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} ([1]).

فالله يأمر نبيه أن يبلغ المؤمنين إذا أتوا ليتفقهوا في الدين، أمره أن يبلغهم سلام الله لهم، وأنا نيابة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقول لكم: سلام الله عليكم).

فردوا السلام بحبور كبير.

تابع شيخنا: (طلب العلم يعتبر جهاداً في سبيل الله، بل أعظم من الجهاد: ألا يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «طلب العلم فريضة على كل مسلم»([2]).

طلب العلم يعتبر جهاداً في سبيل الله

ويقول أيضاً عن حديث أبي الدرداء: «يوم القيامة يوزن دماء الشهداء بحبر ومداد العلماء..»([3]). العلم في الإسلام يا أبنائي وبناتي هو كل ما تعود معرفته بالخير على الناس في دينهم أو دنياهم كما علّم النبي صلى الله عليه وسلم -وهو المعلم الأول- الناس سعادتهم في دينهم ودنياهم.

فبعد أن كان العرب قبائل متفرقة متناحرة سماهم القرآن:

{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} ([4])، صاروا أعظم أمة أخرجت للناس، غيّروا أعظم دولة عالمية في زمانهم، وباعتراف الغرب والغربيين هم الذين نقلوا الحضارة والعلوم إلى الأوربيين، فأنتم الآن في طلبكم للعلم نواب ووكلاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في تعليمكم الناس مما علمه النبي صلى الله عليه وسلم لأمته.

مهمة المسجد يا أبنائي تعني مهمة إمامه، ومهمة الإمام أن يعلم الناس ثلاثة أشياء أمرَ اللهُ نبيه أن يعلمها الناس:

1- أن يعلمهم الكتاب؛ يعني القرآن، وليس المراد من تعلم القرآن أن يتعلم تلاوته أو النطق به فقط.. إن وصفة الطبيب إذا قرأها المريض لا يُشفى، المهم أن يأخذ الدواء ويستعمله، عند ذلك يستفيد منها.

القرآن هو وصفة الله عز وجل الطبية كما يقول اللهُ عز وجل في القرآن الكريم: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ}([5])).

نظر الجميع إلى شيخنا نظرة استفهام فأتم حديثه:

(شفاء من الشرِّ، شفاء من الرذيلة، شفاء من كلِّ الأمور المعيبة، سواء كانت أقوالاً أم أعمالاً، سراً أم علانية، ورحمة بالانتقال من الجهل إلى العلم، ومن الفقر إلى الغنى، ومن الذلِّ إلى العزّ، ومن الضعف إلى القوة. يقول القرآن في هذا المعنى:

{وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى}([6])… يعني فقيراً فأغناك. ويقول:
{وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ } ([7])… نقلكم من الذل إلى العز.

ويقول: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} ([8])… والنصر نقلة من الضعف إلى القوة، ومن تسلط العدو إلى الاستقلال.

لقد نُفذت هذه التعاليم بفهم وصايا رسول الله صلى الله عليه وسلم من حدود فرنسا إلى الهند على اختلاف اللغات والألوان والقوميات، فانصهروا جميعاً تحت كلمة الإسلام وتحت راية: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ  }([9])… بل أكثر من ذلك:

«المؤمنون في تراحمهم وتوادهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى»([10]).

فالمؤمن مهما كان صغيراً يهتم له كل المسلمين ويعتنون به.

نفذت رائحة عطرة، والتفتُ فإذا بالإخوان الشباب يحملون الشاي الأحمر بماء الزهر، والذي تميّز شيخنا بتقديمه للجميع.

حمل شيخنا كأسه ولكنه لم يرتشف منه رشفة واحدة، وتابع حديثه باسماً: (المسلمون في عصرنا فقدوا ثمرات الإسلام، وهم ضعاف متخلفون ومستعمرون بمختلف أنواع الاستعمار، ومسيطر عليهم اقتصادياً وسياسياً، والسبب فقد المجتمع الإسلامي لمن يعلم الكتاب والحكمة ويزكي النفوس.

العلماء هم وكلاء الأنبياء؛ قائد الطائرة له نائب ومهمة النائب أن يفعل كما يفعل القائد ولكن إذا كان وكيلاً بالاسم ولا يحسن قيادة الطائرة فهو فاشل إذن.

وأنتم الآن في دراستكم لن تنالوا العلم بقراءة الكتاب وأخذ الشهادة، ولكن إذا ما ترجمتم القرآن من تلاوة إلى أعمال، إلى حكمة، إلى أخلاق زكية، ونهضتم بأمتكم نحو العلم والحكمة والتزكية، عندها ستصبحون ورثة ووكلاء للنبي بالمعنى الحقيقي العملي.

إن من أسباب تخلف العالم الإسلامي الكليات والجامعات الإسلامية من الأزهر فما دون لأنها لا تخرّج الوارث المحمدي بشكل متكامل… العالم المحمدي هو الذي ينقل الأمة من الجهل إلى العلم، إلى كل علم ينفع، إلى كل ما يحتاج إليه المسلمون.

العالم المحمدي هو الذي ينقل الأمة من الجهل إلى العلم، إلى كل علم ينفع

فهل يُعلَّم المسلمون صناعة الطائرات والسيارات وباقي مخترعات العصر التي تعطي للإنسان القوة؟. القرآن يخاطب المسلمين فيقول: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ } ([11])… حتى تحقق انتصاراً على العدو في كل الميادين.

هل إمام المسجد والعالم الديني يعلم المسلمين الحكمة؟

هل يعلمهم فقه النجاح في الحياة؟

الحكمة هي الصواب في القول وفي العمل أي ألا يعمل الإنسان عملاً خاطئاً وألا يقول قولاً غير صحيح.

هل إمام المسجد يداوي أمراض المجتمع في أخلاقهم وسلوكهم فينقلهم من الرذائل إلى الفضائل؟

النبي هكذا فعل، والعالم الوارث ينبغي أن يفعل ذلك لأجل أن يكون وارثاً حقيقياً لا وارثاً باللفظ فقط.

الوضوء ذُكِر في القرآن في آية واحد…

والصوم ذُكر في ثلاث أو أربع آيات…

ألف العلماء في الوضوء والصلاة كتباً مثل الجبال!!.

أما الحكمة فقد ذُكرت في القرآن الكريم عشرات المرات، بل جعلها القرآن نصف النبوة ونصف الدين فقال عن الأنبياء: { وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا } ([12])… المقصود بالحكم: الحكمة، والحكماء هم الذين لا يخطئون في قول أو عمل، في الاقتصاد أو الفكر أو الأخلاق، وفي كل ما ينفع صغيراً أو كبيراً، وهذا نصف الإسلام.

ولذلك وصف سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم المسلمين الصحابة في زمانه بقوله: «حكماء علماء كادوا من فقههم أن يكونوا أنبياء»([13]).

وذكر الحكمة قبل العلم!!).

وسأل: (النبي؟!.. من هو النبي؟).

ثم أجاب بنفسه: (النبي هو الذي يصنع الأمة الفاضلة القائمة على الحكمة والعلم والتزكية).

النبي هو الذي يصنع الأمة الفاضلة القائمة على الحكمة والعلم والتزكية

ثم نظر إليهم بحنان قائلاً: (لذلك اجتهدوا في دراسة المنهاج في الكلية، واجتهدوا لتأخذوا العلم الرباني أيضاً من طريق القلب ومن طريق مجالسة الله في الذكر، وأن تتفقّهوا في القرآن لتقرؤوه بالفهم.. فمثلاً إذا ذكر القرآن نوحاً تفهم من نوح أن تصبر في عملك لأداء الرسالة ولا تيأس أو تمل. وإذا قرأت الكهف تتعلَّم كيف تخلو بالله حتى يفيض الله عليك من علمه وحكمته كما أفاض على شباب أهل الكهف. وإذا قرأت سورة مريم تتعلم المرأة أن تجتهد في العفة لتصل إلى سمو الملائكة الأطهار:
{ وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ (42) يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ }([14]).

إذا قرأت سورة مريم تتعلم المرأة أن تجتهد في العفة لتصل إلى سمو الملائكة الأطهار

ربَّى النبيُّ صلى الله عليه وسلم الصحابةَ على الصبر وعلى تحمل المشاق لطلب المعالي فتحملوا وضحوا بأنفسهم وهذا معروف لنا جميعاً، فاستطاعوا أن يبنوا دولة لا كدولة سيدنا داود وسليمان دولة قومية صغيرة في فلسطين بل دولة عالمية، صبروا على الشدائد الكبيرة بكل ما يملكون من طاقة للصمود أمام المحن وعداوة المشركين وتعنتهم حتى فازوا وانتصروا فحققوا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنما النصر مع الصبر»([15]).

لو صار المؤمنون مؤمنين حقيقيين لبطل الجهاد وبطلت الحروب، وتحقق السلام والإخاء والمحبة، ولتحققت الأمة الواحدة التي تخضع لإله واحد ولبرنامج واحد ملؤه السعادة لكل البشر).

لو صار المؤمنون مؤمنين حقيقيين لبطل الجهاد وبطلت الحروب، وتحقق السلام والإخاء

وهنا حمل أحد الشباب حزمة من الورد وأعطاها لشيخنا فقدم وردة لكل أخ ثم حمل وردته المفضّلة ذات الرائحة الحلوة وصار يشمّها مراراً، وكأنَّها تحمل له قوة أو طاقة جديدة تساعده على إتمام اللقاء وزيادة النشاط.

تابع شيخنا: (كانت المرأة تلقي المحاضرة في الجامع الأموي بدمشق وكان من تلاميذها عبد الملك بن مروان الذي كانت حدود مملكته من الهند إلى الصين إلى حدود فرنسا!.

كانت المرأة تلقي المحاضرة في الجامع الأموي وكان من تلاميذها عبد الملك بن مروان

هكذا رفع الإسلام من شأن المرأة فكانت أستاذة أعظم خليفة في ذلك الوقت…

لما قرأ المسلمون قصة يوسف عليه السلام صاروا من النَّزاهة والورع والبعد عن الفواحش كما أراد الله من تلك القصة، ونجحوا في السياسة والاقتصاد وفي فن الحرب، ونجحوا في توحيد نصف العالم بفقه الحكمة بثقافة القرآن وهذا معنى قول النبي الكريم صلى الله عليه وسلم: «العلماء ورثة الأنبياء»([16]).

أي يعملون كما عمل الأنبياء… ولا تظنوا أنَّ هذا أمر مستحيل أو صعب لأنه بصدق الإرادة يتحقق كل مراد، وبصدق العزيمة والتصميم يستطيع المسلمون الآن أن يجعلوا الكرة الأرضية بلداً واحداً وأمةً واحدةً.

بصدق العزيمة والتصميم يستطيع المسلمون أن يجعلوا الكرة الأرضية أمةً واحدةً

لقد زرتُ معظم بلاد العالم من طوكيو إلى غرب أمريكا عبر الاتحاد السوفييتي عبر الكرملين وما وجدت عثرة تقف أمام الإسلام.

زرتُ معظم بلاد العالم وما وجدت عثرة تقف أمام الإسلامً

دعاني بابا روما ثلاثة مرات لإلقاء محاضرات في الفاتيكان، وفي لقاء شخصي استغرق ساعة كاملة أنهى جلسته معي بقوله: “أنا أقرأ القرآن كل يوم!!”، وطلب مني إلقاء محاضرتين واحدة منهما ألقيتها في الفاتيكان حيث كان عنده كرادلة العالم وكان عنوان المحاضرة: مستقبل الإسلام والمسيحية في العصر الحديث.

لذلك أبنائي وبناتي، إن الله رشَّحكم لأمر عظيم، وعظيم جداً…

النبي r يقول لكم أريد أن أجعلكم وكلائي ونوابي، إذا الملك أو رئيس الجمهورية قال لأحدهم: أنا أريد أن أرشحك لتكون نائباً عني، فأي شرف هذا، وأيّ مجد يُعرض على هذا الإنسان؟.. ثم أيّ واجب يترتب على هذا الإنسان أن يقوم به؟

لذلك فالعالِم بمعناه الحقيقي هو المعلم بأحواله وأقواله وأفعاله وأخلاقه، وهم جميعاً يبلغون الإسلام ويقودون الأمة، يبنون عقلها وأخلاقها وروحها وحضارتها.

العالِم بمعناه الحقيقي هو المعلم بأحواله وأقواله وأفعاله وأخلاقه

إذا وُجِدَ المعلم وُجد الجامع، وبُنيت الأمة، وقادت الأمم الأخرى إلى كل خير.

ماذا كان عمر قبل الإسلام؟

كان دلالاً يبيع الجمال في السوق!!!

ومن هو خالد قبل الإسلام؟

لقد حطّموا الاستعمار الشرقي والغربي كله في أقل من عشر سنين، وهذا كله بفضل الإسلام ومدرسة القرآن وأستاذ الإسلام محمد صلى الله عليه وسلم.

وأنتم الآن في دراستكم للعلوم الإسلامية مدعوون لقيادة الأمم حسب المنهاج القرآني وسيكون حظكم من ثمرات الإسلام التي ذكرتها بقدر ما تبذلون من جهد وهمة لتُسعدوا شعبكم وتُسعدوا كل من حولكم.

النبي صلى الله عليه وسلم يبشرنا رغم تخلّف المسلمين الآن بقوله: «خير هذه الأمة أولها وآخرها»؛ أولها فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وآخرها فيهم عيسى ابن مريم «وبين ذلك ثبج أعوج ليس منك ولست منهم»([17]).. النبيّ صلى الله عليه وسلم يتبَرَّأ من الوسط الذي يعوج عن الصراط المستقيم.. فأرجو من الله أن يكون عملكم ليس في الشيشان فقط لأن المسلم لا حدود لوطنه.

إذا فقهتم القرآن فقهاً حقيقياً وعملتم  بأوامره وانتهيتم عن نواهيه، وفقهتم الحكمة فقهاً حقيقياً فأنتم خير زمانكم وعندها يعزكم الإسلام ويرفعكم ويرفع الناس بكم.

أسأل الله لكم التوفيق وأن يحقق بكم الآمال والحمد لله ربِّ العالمين).

وقفوا جميعاً مستبشرين واعدين، ثم أنشدوا أنشودة بالشيشاني..

لا إله إلا الله…

ثم قرأ أحدهم قوله تعالى:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (13) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ } ([18]).

ثُمَّ قُرِأَت الفاتحة.

ودمعت عينا شيخنا آملاً بأن يكونوا علماء أمتهم الواعدين.

([1]) سورة الأنعام، الآية: (54).

([2]) سنن ابن ماجه، باب فضل العلماء والحث على طلب العلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه، والبزار في مسنده.

([3]) كَنْز العمال، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه.

([4]) سورة آل عمران، الآية: (110).

([5]) سورة الإسراء، الآية: (82).

([6]) سورة الضحى، الآية: (8).

([7]) سورة آل عمران، الآية: (123).

([8]) سورة غافر، الآية: (51).

([9]) سورة الحجرات، الآية: (10).

([10]) صحيح البخاري، عن النعمان بن بشير رضي الله عنه.

([11]) سورة الأنفال، الآية: (60).

([12]) سورة الأنبياء، الآية: (79).

([13]) حلية الأولياء لأبي نعيم الأصفهاني، عن أبي سليمان الداراني.

([14]) سورة آل عمران، الآية: (42-43).

([15]) مسند أحمد بن حنبل، عن ابن عباس رضي الله عنه.

([16]) سنن الترمذي عن قيس بن كثير.

([17]) حلية الأولياء وطبقات الأصفياء، الجزء السادس ص123.

([18]) سورة الصف، الآية: (10-14).