كونوا كالشِّراع الأمين لسفينةِ الإسلام حتى تصل مرفأ النّجاة والسَّلام
كونوا أبناء السماء
كونوا أبناء السماء
خرجْنا من المسجد لتلبية دعوة العَشاء في مقرِّ الجمعيَّة الإسلامية في “هونغ كونغ”. كان الجوُّ في الخارج حارّاً جداً ورطباً بينما كانت صالة الطعام مُكيَّفة بدرجَةِ تبريدٍ عاليةٍ.
وبعدَ تناولنا للعَشاء استغلَّ الحُضُورُ وجُودَ الشَّيخ وبدؤوا بإلقاء أسئلتِهم المُتعلِّقة بأمورهم الدينية، والشيخُ يجيب بودٍّ واهتمام.
أحسَسْتُ بتعَبِهِ، فرجَوْتُ مترجِمَهُ الأستاذ فاروق آقبيق أنْ نغادر المكانَ بسُرعة.
وصَلْنا غُرفة الفندق، وقبل أن نرتاح توجَّه الشيخُ إلى الموضأ، وفجأةً أخرج ما في معدته عدَّة مرات، علماً أنَّهُ لم يتناول إلاَّ لُقيمات.
تراخَى بين يديَّ وخارت قواه، فلم تعُدْ تحمله قدماه على المشي، متلوِّياً من الألم وبصعوبة بالغة أوصلتُهُ إلى السَّرير.
جلس متعباً يلهَثُ وأماراتُ الشَّحوبِ والاصفرارِ تبدو عليه، سألني وأنا أمسحُ وجهَهُ: (معكِ ورقة وقلم؟).
تساءَلتُ بخوفٍ ودهشةٍ: نعمْ..! ماذا..؟!
ردَّ بحزم: (معكِ ورقة وقلم؟).
أرعَبَني ما يُفكِّرُ فيه، وأنا أنظرُ إليه والدُّموعُ في عينيَّ: نعم.. نعمْ.
بَحَثْتُ عن مفكِّرتي، وأنا أرجوه باكيةً ضارعةً: أرجوك بعدَ أن ترتاح.
علا صوتُهُ مُتعباً: اكتُبِي.. اكتُبِي.
تَمْتَمْتُ مبتلِعَةً دموعي: حاضِرْ.. حاضِرْ.
وجدتُ قلماً بجانب السَّرير ونظرتُ إليه ضارعَةً، ولكنَّهُ بدأ بصوتٍ مُرْتَعِش: (إخواني وأحبابي: السَّلام عليكم ورحمَةُ الله وبركاته..).
جاءني صوتُهُ من بعيد وكأنَّها وصيَّة مودِّع!..:
(أعظَمُ السَّعادات يا أبنائي وبناتي أن يستجيب الإنسانُ لتعاليم الله وندائه فيعمل بما يريدُهُ الله تعالى، وهذه هي الاستجابة الحقيقية كما قال تعالى: {اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ }([1]).
أعظَمُ السَّعادات أن يستجيب الإنسانُ لتعاليم الله وندائه فيعمل بما يريدُهُ الله تعالى
وهذه حقيقة الإسلام وروحُهُ، لأنَّ فيها حياة القلبِ والفكر والرُّوح والعمل، ولا غاية لها إلا إسعادُ الإنسان.. كلّ إنسان).
نظرتُ إليه مليَّاً وكأنِّي في حُلمٍ ويدايَ تَخُطَّان ما يُمْلي عليَّ عاضَّة على شفتي حتى لا يعلو نشيجي.
سمِعْتُ صوتَ البابِ!.. وهرَعْتُ لأفتحَهُ فإذا بزوجة المُترجِم -الأستاذ فاروق- تدخُلُ عليَّ وتستقبلها عيناي مستنجدةً فتعودان بالخيبة والحيرة لأنها لم تكن أحسن حالاً منّي.
واسترسل الشيخُ حديثَهُ مومِئاً إليَّ بمتابعة الكتابة:
(أيها الأحبَّة اقرؤوا القرآنَ بالتدبُّرِ والعلمِ والعملِ لتعلموهُ بقالِكم وحالِكم وأخلاقكم. القرآنُ نقلةُ حضارةٍ وتقدُّم لكلِّ إنسانٍ يؤمن بهِ يقيناً فيعملُ بتعاليمِهِ ووصاياه).
اقرؤوا القرآنَ بالتدبُّرِ والعلمِ والعملِ لتعلموهُ بقالِكم وحالِكم وأخلاقكم
القرآنُ نقلةُ حضارةٍ وتقدُّم لكلِّ إنسانٍ يؤمن بهِ يقيناً فيعملُ بتعاليمِهِ ووصاياه
تنحْنَحَت زوجة فاروق، فنظرَ إليها شيخنا فانكمشتْ تستغيثُ الله بلا حولٍ ولا قوَّة، ونظرتْ إليَّ أنْ اكتُبي.
هزَّ رأسَهُ مُتألِّماً ولكنَّه تابَعَ: (كونوا أبناء السَّماء كونوا أبناء الإسلام، لا سلامَ للعالم إلاَّ بالإيمان الحقيقي، عودُوا إلى تعاليم الله ومدرستِهِ، وأكثروا من ذِكر الله).
عودُوا إلى تعاليم الله ومدرستِهِ، وأكثروا من ذِكر الله
نظرتُ إليهِ غيْرَ مصدِّقةٍ ما أسمعُ، واجمةً خائفةً، فتابع: (كونوا أبناء الشَّيخ حقاً لا بُنوَّة الجسد التي قالَ الله تعالى فيها لنوح عليه السلام: { إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ } ([2])، بلْ بنوَّة القلب والرّوح والفكر التي تورثكم صِبغة الإسلام).
تنهَّدتُ باكيةً وفقدتُ الأمل أن يرتاح قليلاً، دوى صوتُه في أذني: (..أبنائي لا تتمُّ الأمور، ولا تنجَحُ بالأماني والكسَل، ولا حتى بالدعاء فقط، هويَّة المسلِم الحقيقية في جهادِه لنفسه ودعوتِهِ إلى الله بالمعروف ونهيهِ عن الْمُنكر قالاً وحالاً وسلوكاً.
هويَّة المسلِم الحقيقية في جهادِه لنفسه ودعوتِهِ إلى الله بالمعروف ونهيهِ عن الْمُنكر قالاً وحالاً وسلوكاً
كلُّ مَنْ صدَق في إيمانِهِ، وصدَقَ مع ربِّه في سرّه وجهرهِ، في رضاه وغضبِهِ، سيكونُ الله معَهُ وسيصدُقهُ وينصُرُهُ، أما قال الله تعالى:{ لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ } ([3])، أي يَتوبَ إذا تابُوا؛ إذا أنابوا إلى الله..).
كل من صدَقَ مع ربِّه في سرّه وجهرهِ، في رضاه وغضبِهِ، سيكونُ الله معَهُ وسيصدُقهُ وينصُرُهُ
فجأةً تراخى الشيخُ على السَّرير وظلَّ متوجِّهاً إليَّ، لَمَسْتُ يدَهُ راجيةً: سيدنا كفى أرجوك لقد تعبْتَ…
وكأنَّه لم يسمعني، كأنَّه أصبح في عالم آخر ثُمَّ أردَفَ مُتابِعاً: (أبنائي؛ لا شيء إلا بثمن).
اقتربتُ منه أكثر وجلستُ بجانبه على السرير، ليطمئِنَّ بأني أدوِّن كلَّ كلماتِهِ فنظر إليَّ شاكراً وتابع: (أحبّائي؛ التوفيقُ والنّجاحُ ليسَ بالأماني، ولكن بالعمل الدّؤوب ليلاً ونهاراً.
لا تكونوا كاليهود الذين ضربت عليهم الذِّلَّة والمسكنة.
اخترَعوا لكم القوميَّة حتى تتمزَّقوا فيهدِمُوا إسلامَكم -سرّ وحدتكم- جعلوكم أمَّة العرب وأمَّة العجم وأمَّه الهند.
اخترَعوا لكم القوميَّة حتى تتمزَّقوا فيهدِمُوا إسلامَكم سرّ وحدتكم
شغلونا بالتفرُّق المذهبي: شافعي.. حنفي.. سنِّي.. شيعي.. وهَّابي.. سلفي.. صوفي- وحرَّضوا كلَّ فئةٍ على تكفير غيرها، وغايتُهم تمزيقُ وحدَتِكم، والله جلَّ شأنَه يقول:
{ إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ}([4]).
أين واقعنا من هذه الآية؟.. هل صحَّحنا سيرتنا؟..).
نالَ منِّي الْجُهْدُ وزاغَتْ عيناي غَيرَ أنَّه تابَعَ غير مبالٍ بنظراتي: (ليكن همُّكم بالليل والنهار إعادة بناء الإسلام، ورضاء الله ومحبَّتِهِ وخدمَةِ دينه).
ليكن همُّكم بالليل والنهار إعادة بناء الإسلام، ورضاء الله ومحبَّتِهِ وخدمَةِ دينه
أغمضَ عينيهِ وتنفَّس بعُمْق ثُمَّ قال: (ابنوهُ أوَّلاً في أنفسكم وعقولكم وسمعكم وفي مقاصدكم، المسلم الحقيقي هو القدوة الحسنة لكلِّ مَنْ حولَهُ، ينشرُ الإسلامَ بحالِهِ وقالِهِ وأعمالِهِ وأخلاقِهِ).
تململَ مُتحرِّكاً ونظر إلينا بتحسُّر…
لم تنطقْ زوجة الأستاذ فاروق بكلمة، ولكنْ كانتْ تشجعني على الكتابة بنظراتها، وتتضرَّعُ إلى الله بحركةِ شفتيها أن يحميه ويشفيه.
بعد قليل علا صوتُهُ وكأنَّه تحسَّن قليلاً: (كونوا إسلاماً يمشي على الأرض، يتمثَّلُ القرآنُ في حياتكم).
ثم تنهَّد شيخنا بقوة، ونظرَ إلينا بثبات وتابع وكأنَّه على منصَّة مؤتمر: (لا يُمْكنُ الخروجُ مِمَّا نحن فيه من ضعف وتشتت إلا بالعودة إلى القرآن العظيم.
لا يُمْكنُ الخروجُ مِمَّا نحن فيه من ضعف وتشتت إلا بالعودة إلى القرآن العظيم
كلُّنا جميعاً في المعركة، تجمَّع الأعداء ضدَّنا وهدفُهُم تمزيقُ المسلمين والإسلام.. وللأسف نفعَلُ كما أراد لنا الأعداء ونمشي على مخطَّطِهم، بل نُسارِع في تحقيق أهدافهم.
تكالبوا علينا كما ذكر رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم: «تداعَى عليكم الأُمَمُ كما تداعَى الأكلَةُ إلى قصعتها»([5])، عليكم أن تفقهوا هذه الحقيقة وتتحمَّلوا المسؤولية، وكلٌّ حسبَ طاقتِهِ.
والله تعالى يقول:{ وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ} ([6])، يعني من يَعْمَل بتعاليمه وينصرُ دينهُ وينشرُهُ ويكون مسلماً حقيقياً، عندها ينصُرُهُ الله ويرفعُهُ ويعطيه ما يشاء، بل أفضل مِمَّا يريد.. لا هَمَّ لي سوى كيفيَّة العودةِ إلى الإسلام وكيف ننقِذهُ).
كانت قواهُ تخورُ شيئاً فشيئاً، ونحنُ نتوسُّلُ إليهِ بنظراتِنا وتأوُّهاتنا أن يرتاح قليلاً، ولكن بلا جدوى، ثم أخذ يتابع: (اجتهدوا ليلاً ونهاراً في الدُّعاء والتضرُّعِ، ولكن بعد العلم والعمل والتعليم، فتِّشوا أنفسكم: هل أنتم مسلمون حقيقيون؟!..
أوَّل كمال الإنسان أن يعرف نقصَهُ ويتفقَّدَهُ ويسعى لتصحيحهِ وتغيير ما بنفسِهِ، وحاشا لفضلِ اللهِ أنْ يُخَيِّبَنا).
أسندتُ رأسي إلى الحائط متسائلةً في نفسي: إلى متى؟..
نظرَ إليَّ مشفقاً ولكنَّهُ تابع: (أنا واثق ومتفائلٌ، والأمَلُ هو المحرِّكُ الحقيقي للعمل.. إذا اتحدنا وَعُدْنا لتعاليم الله نشرنا الإسلام وأجهضنا افتراءات الأعداء وكيدهم، ولكنْ بالحكمة والموعظة الحسنة..
وليس للمسلمين جنسيَّةٌ إلا دينهم. أنتم إخوة في الإسلام، لا يجوز أن يفرِّقكم نسبٌ ولا لغة ولا وطن.. اعملوا ما بإمكانكم، والله لهم بالمرصاد).
سمعت حركةً في الخارج، نظرتُ إلى الباب مُستَنجِدَةً عسى أنْ يكون الأستاذ فاروق، فنظرَ إليَّ بتحسُّرٍ قائلاً: (قلبي محروق على الإسلام والمسلمين، لا تكونوا رجالَ الدُّنيا أطفال الآخرة.. أرجو أن يوفّقنا الله لِما يحبُّ ويرضى..
لا تكونوا رجالَ الدُّنيا أطفال الآخرة
نحنُ على سفرٍ والله تعالى يقول:
{ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} ([7]).
نحنُ مسافرون ونحتاج للزوَّاده).
كنتُ أكتبُ ولا أدري كيف تقع الكلمات.. صارَ تنفُّسُه مسموعاً، ومع ذلك تابع: (الحياةُ مَمَرٌّ لا مقرٌّ، ومحطَّة للتَّزوُّد، فتِّشوا زوَّادتكم عسى أن تكون كلها حسنات، فعليها تعتمد سعادتنا الأبدية.
من يزرع الشوك لا يقطِفُ الياسمين.
هويَّةُ المسلم في أعماله، وبها تُفتَحُ له أبواب السَّماء فيتحدَّدُ مصيرُهُ على أساسها، ومدرستنا كتاب الله عز وجل الذي قال فيه: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ}([8])، أي من شيءٍ يحقق سعادتنا ونجاحَنا، تفوُّقنا وتميُّزنا في ديننا ودنيانا وآخِرَتنا.
قريباً تنبثق شمسُ الحقيقة؛ شمسُ الإيمانُ وتطلُّ على العالَم.. والإسفار بدا.. أطيعوا أولي الأمر منكم..).
أخيراً وصل الأستاذ فاروق مع أحد تلامذة الشيخ الصينيين الذي درس عندنا في المجمع. تنهَّدْتُ طويلاً ناظِرةً إليه مستنجدةً، ولكنَّ شيخنا تابع بضعف:
(حافظوا على حُسْنِ صِلَتِكُم بالرَّئيس حافظ الأسد، لقد ساعدَنَا كثيراً، ولهُ النَّصيبُ الأوَّل في بناء المجمَّع والدّفاع عنه ومساندتِهِ، أرجوكم لا تضيّعوا تعبي).
نظر الأستاذ فاروق إلى شيخنا يُحاوِلُ أن يقول شيئاً.. وانحنى الأخ الصيني أمام السَّرير والدُّمُوع تنهمِرُ من عينيه.
تابع شيخنا مُصَمِّماً: (كونوا جسداً واحداً، كونوا جميعاً ولا تتفرَّقوا، كونوا جسراً لبعضكم بعضاً، كونوا كالشِّراع الأمين لسفينةِ الإسلام حتى تصل مرفأ النّجاة والسَّلام.
كونوا كالشِّراع الأمين لسفينةِ الإسلام حتى تصل مرفأ النّجاة والسَّلام
هذه هي السَّعادة بين يدي كل مسلم.
كونوا نوراً، كونوا شموساً حتى تمحوا الظلام والجهل والظلم والعدوان).
تحسَّن قليلاً وأشارَ إليَّ، وأخذ المفكِّرة وكتب:
(هذه وصيَّتي لأبنائي جميعاً، وكلُّ ما فيها أمليته على زوجتي المخلصة، وأوصيكم بها خيراً، وشاهدٌ على ذلك فاروق وزوجته رضي الله عنهم جميعاً، والسلام عليكم ورحمةُ اللهِ وبركاته).
ثم وقَّع عليها:
خادم العلم والإخوان
الشيخ أحمد كفتارو
نقلونا إلى المستشفى، كان الأستاذ فاروق يتَّصل بطبيب شيخنا الخاص “أويس طرقجي” في سورية، ويُحيطُه علماً بحال الشيخ الصِّحِّي فيشير علينا بما نفعل.
قضينا النَّهار كلَّه في المستشفى، وها هي بوادر التحسُّن تظهر عليهِ، فيرمُقَني بنظراته مشفقاً عليَّ لما رأى خوفي وبُكائي ويقول: (الحمدُ لله أنا بخير، لا تخافي لقد أتعبتُكِ معي).
صارَ يربِّتُ على كتفي مُعتذِراً: (كلهُ خير، وأرجو أن يُكتَبَ لكِ الثَّواب فيما عانيتِ).
انهمرَتْ دموعي هامِسَةً: الحمدُ لله.. الحمدُ لله..
والحمدُ لله مرَّت الأزمة بسلام، فغادرْنا صباح اليوم التالي متوجِّهين إلى اليابان إلى مؤتمر الأديان وصلنا المطار حيثُ استقبَلَنا أعضاءٌ كثيرون من جماعَةِ الأموتو الدينية بالأعلام والفرح وعيونٌ تفيضُ دمعاً وفرحاً بسلامَةِ الشيخ.
التقينا بالأعضاء الرّئيسيين وكانوا قلقين على صحَّته جلسَ ساعةً يُحدِّثهم عن الإيمان ومدرسة الله، وكيف يرقى الإنسان بذكرِ الله، ثُمَّ وضَّحَ لهم أسس الإسلام في تربية الفرد والأسرة والمجتمع وكيف يُحمِّلُ الإسلامُ كلَّ فردٍ مسؤوليَّتَهُ في هذه الحياة، ليكونَ رحمة وهداية للآخرين، وأخبرهم أنَّ أكبر خطرٍ يواجِهُ هذا الإنسان هو فقدان الحبِّ والرحمةِ من قلوب الناس، فقد انقرضت العاطفة العائلية كواجبٍ ومسؤولية، فحوادث الطّلاق تزداد يوماً بعد يوم، والمـُسكراتُ والمخدِّرات تفتكُ بعقولهم، ولا دواءَ إلاّ بالعودة إلى نظام الله ومدرسته.
وبعد انتهاء الجلسة، أخذونا إلى مُنتجَع وحَمّامات “هنانوساتو” المعدنية ليرتاحَ الشيخ قبلَ المؤتمر.
الحمدُ للهِ تحسَّنتْ صحَّتهُ، وكان لا يفتأ يَحْمَدُ اللهَ على كلِّ شيء، ويسألني عن حالي مشفقاً، ويُطمئنّي بأنَّه بخير كلما رأى خوفي وقلقي عليه.
عُدنا إلى مدينة “أيابي” حيثُ عُقِدَ المؤتمر.
جلس شيخنا سعيداً وأنا بجانبه قلقةً أنظرُ إليه خشيةَ حدوثِ شيء آخر.
كانت كلمةُ شيخنا مُهمَّةً حيث قال فيها:
(كيلا تغرق سفينة البشرية، ولِنُنْقِذ العائلةَ الإنسانية لا بُدَّ من العمل بقانون السماء، الذي لا يتحيَّز لأحدٍ إلا للحقّ حيثما كان.
لكيلا تغرق سفينة البشرية، ولِنُنْقِذ العائلةَ الإنسانية لا بُدَّ من العمل بقانون السماء
لقد سيطرت الأهواء والأنانيات على العقول فأصبحت عاجزةً أمامها، فتعامَت عن الحقّ، أو صارت تراهُ ولا تتبعه، ذلك لأنَّ الرُّوح الإنسانية ضَعُفَتْ لأنَّها بَعُدَت عن صِلَتِها بالقوانين الإلهية الحكيمة).
وختمها بوجوب تعاون الأديان لخدمة الإنسان وسعادته، وشدَّد على وجوب نظافة البيئة الروحية والأخلاقية قائلاً: (..فالإنسان جسدٌ وروحٌ، ولا بُدَّ من العناية بكلٍّ منهما حتى تكون حياته متوازنة لا خراب فيها.
ولأن الإنسان أهمّ ما في الوجود، فلا تكونُ سعادته إلا بالعودة إلى الإيمان الحقيقي، لأنَّ ضغط العلم المادي وكسب العيش أضعفَ تأثُّر الإنسان بالإيمان وممارسته، ولا سندَ لروحِهِ وقلبه إلا تعاليم الله، وإلاّ فسَيَحِلُّ به الدَّمار الرُّوحي والقلقُ والانحرافُ والفوضى الأخلاقية، وسيظلُّ يجري وراء الأهواء والمادّة والشهوات حتى ترتكس إنسانيَّته إلى أسفل منحدَر، وستعجزُ البشريّة عن العودة إلى إنسانيَّتِها ورُقيّها).
صفق الحضورُ ونزل شيخنا مسروراً، عانقهُ رجالُ الأموتو وهُمْ يقولون: “نحنُ معتزُّون بكم، لقد أفضتُّم على المؤتمر من روحانيَّتكم وتعاليم دينكم الكثير.. نحنُ شاكرون لكم كثيراً”. وصاروا يأخذون الصُّور التذكاريَّة.
أحسستُ بسعادة شيخنا البالغة، وعلت الحيوية والنشاط وجهه الحبيب.
وجاء كثير من مديري هيئة الأمم المتحدة يُحيُّونه قائلين: نرجو أن نتعاون جميعاً لجعل كوكب الأرض فردوساً متميِّزاً بالرَّحمة والسلام كما ذكرتم.
وقال أحدُهُم وهو يشدُّ على يديه: “أنتم تنظرون من عالم آخر، ومفهوم أعلى من عالمنا، إنكم تنظرون من بعيد.. من وراء هذا العالم المادِّي، وترجُون تغيير الكثير.. رؤيتكم رؤية نبيٍّ يُحبُّ الخيرَ لكلِّ البشر، حماكُم الله لخير هذه البشريَّة وسعادتها..”.
عُدْنا أخيراً إلى دمشق، وقد أقسَمْتُ عليهِ ألا يُسافِرَ إلا برفقةِ الطّبيب لرعايةِ صحَّتِهِ، لأنَّ أهمَّ ما في الدَّعوةِ رجالُها الْمُخلِصون.
([1]) سورة الأنفال، الآية: (24).
([3]) سورة الأحزاب، الآية: (24).
([4]) سورة الأنبياء، الآية: (92).
([5]) أخرجه أحمد وأبو داود عن ثوبان رضي الله عنه.
أردتك أُمَّة لا أَمَة
أردتك أُمَّة لا أَمَة
6/8/2004م
كان الأسبوع الأخير لنا في المصيف في مضايا زارنا الدكتور أويس طرقجي وقت الضحى وقام بفحص شيخنا حيث كان يشكو ألماً في معدته فطلب له عدة تحاليل وطمأننا عنه باقتضاب.
دخلت غرفة شيخنا مبتسمة قائلة: الحمد لله كلام الطبيب يطمئن.
ابتسم شيخنا لي وهو يستشف القلق في عيني ثم قبض يديه ضاحكاً قائلاً: إذا استطعت معرفة المـُخبّأ وفتحتِ يدي فَلَك ما فيهما.
أحسست أنه يريد إدخال السعادة على قلبي ويزيل خوفي عليه بدأت محاولة فتح يديه ونحن نتضاحك ولكن ما شاء الله إنه قوي العزم رغم تعبه حاولت كثيراً حتى راخى قبضته فأمسكت بالهدية وأخذتها وهو يضحك.
سألني مازحاً ماذا ستفعلين بها؟
قلت إذا احتجت أبيعها نظر إليّ قائلاً الله لا يحيجك كررها ثلاثاً وهو يرفع يديه:
وتهدج صوته نظرت إليه مندهشة من تضرعه فتابع:
لا تخافي لن تحتاجي إلا لوجهه الكريم، اغرورقت عيناي بالدموع من دعائه وتضرعه وخشيت أن أبكي فلم يكن يحب أن يراني باكية هرعت إلى الحمام باكية ناداني.
رأتني الأخت مها الزين فلحقتني مدهوشة ما الأمر كنتما تتضاحكان كرر شيخنا نداءه لي فطلبت منها الذهاب إليه حتى لا يرى بكائي دخلت مها إليه وجلة سألها: أين الحجة؟
قالت: سيدنا في الحمام ستأتي حالاً طلب كأس ماء، وأخرجه حبّة مهدِّئ وشربها.
عادت إليّ وهي تبكي يا الله ما الذي حدث عانقتني قائلة لا تبكي، قال الدكتور أنه بخير، غسلت وجهي، وعدت إليه محاولة أن أتمالك نفسي، وأحبس دموعي، وقد أطرقت رأسي أومأ لي بالجلوس بجانبه اقتربت منه أطلب الأمان علني أهدأ، وضع يده على رأسي، وصار يقرأ آيات قرآنية وقال: لا تخافي لن أتركك، ولكن الآن لن تذهبي معي أريد صدقة جارية في صحيفتي، أنت عزائي، حدثي عني اكتبي عني ما ترين.
اكتبي وعلمي الآخرين كيف نحب الله، كيف نعيد الإسلام، كيف أردتك أن تكوني أمّة لا أمَة تزرعين وتحصدين قلوباً تعلمينها حب الله وحب رسوله أريدك عالماً آخر تزرعين السعادة في قلوب الآخرين علهم يستيقظون وإلى الله يعودون.
كان يربت على رأسي وكنت أريد أن أمتلك تلك اللحظات إلى الأبد، سكنت إلى جانبه وأغمض عينيه هادئاً وصوت تنفسي مسموعاً فجعل يهدهدني كالأم الحنون بعد لحظات سألني: أليس اليوم موعد درسك في جامع بدر قلت: نعم ولكن لن أذهب أحسك متعباً قال: لا أنا مرتاح اذهبي يا بنتي فهذا فرض لا يجب تأخيره وننزل معاً ثم أمسك بكتابه: قومي وتابعي تحضير درسك ورتبي الأمور وسنعود سوية إلى بيت مشروع دمر وسيأتينا الدكتور لتحليل الدم فنكون قريبين منه.
وعند الغداء أكل قليلاً، وهو يتابعني بنظراته، ثم جلسنا في السيارة، وأنا أرنو إليه بطرف خفي فأجده آملاً متضرعاً ويشعر بنظراتي فيلمس يدي مطمئناً.
أوصلني إلى جامع بدر وقال مازحاً: لا تتأخري عليّ فأنت عزائي.
الإيمان ضرورة لنجاح الإنسان
الإيمان ضرورة لنجاح الإنسان
مع السفير النمساوي صيف 1995
حضر السفير النمساوي إلى باحة الطابق الأرضي في الحديقة رحب به شيخنا رحمه الله ثم قال:
أبناء القرية يتعارفون ويتواصلون ويتعاونون، الله لا يفرق بين دين ودين والأنبياء إخوة، وقرابتنا وثيقة والتعرف يوجب التعايش كيف أتعاون معك إذا لم أعرفك وتعرفني، ما يتميز به عصرنا الحاضر حرية المعتقد وسهولة الاتصالات، وهو خير العصور للأديان، إذا وجد رجل الدين المبدع الذي يصور الدين الحقيقي بروحه وجوهره. ولأن الإيمان صار من ضرورات نجاح الإنسان وسعادته وبقائه واستمرارية حياته فعندما أقول قال محمد صلى الله عليه وسلم يعني كل الأنبياء قالوا ذلك لأن الله الذي أرسلهم جميعاً واحد، وأرسل ذات المبادئ والكمالات.
وليس السلام من السلاح فقط بل السلام من الفقر وضد الحقد والحسد والعدوان.
عصرنا الآن هو أنسب العصور لإحياء الإيمان كما ذكرت لكم لسهولة التخاطب وتقدم الاتصالات وحرية المعتقد فالدين يعالج المشكلات قبل وقوعها ينزع بذرتها من الأرض قبل أن تصبح مرضاً له وجود ويستعصي حله ومعالجته بالإيمان القاضي هو الضمير وهو الذي يصلح الإنسان لا نيأس فاليأس فقد وشلل.
الدين يعالج المشكلات قبل وقوعها ينزع بذرتها من الأرض قبل أن تصبح مرضاً
قال السفير: حقاً العقل يتقبل أفكاركم وأنت حكيم في كل ما أوردته.
قال شيخنا: يجب أن ننشرها في العقول وستتحول مليارات الدولارات التي تشقي الإنسان وتقتله إلى إسعاد الإنسان كل الإنسان.
سأل السفير: هل يعني ذلك إقامة دين واحد في العالم؟
قال شيخنا: هل الدراسة في الإعدادي تنافي الدراسة الثانوية أو الجامعية؟ نحن لا نترك دراستنا وما تعلمناه بل نتابع إلى الدراسة الأخيرة التي هي الإسلام. فكتاب القرآن يجمع كل القيم وكل ما جاء به الأنبياء وهو منهج منظم لحياة الناس كلهم وهو أعلم بهم منذ خلقهم ويعرف ما يصلحهم.
قال السفير: وأنا أيضاً أفهم ذلك ومسرور للقائكم لأنكم كشفتم لي الكثير مما كنت أجهله عن الإسلام وعن حكمة الله في ذلك.
الصبر ليس انتظار الفرج دون عمل
الصبر ليس انتظار الفرج دون عمل
زارتنا أخت محبّة لشيخنا توفي زوجها شاباً وترك لها ولداً وحيداً في أول مراهقته وهي ذات قلة وغالباً ما يرفدها شيخنا ببعض المال والمؤونة وكنت مع الشيخ في الغرفة نقرأ معاً وعندما وصلت رحب بها شيخنا وقال وكأنه يتابع حديثه معي:
بابا الإسلام حركة، الإسلام عمل لا تكونوا جمادى الأول وجمادى الثاني، كونوا ربيع الأول والتفت إليها: أنا أستطيع أن أساعدك ولكن حركي حالك، رسولنا الكريم يقول: «إن الله تعالى يلوم على العجز ولكن عليك بالكيّس، فإذا غلبك أمر فقل حسبي الله ونعم الوكيل»([1]).
بذل الجهد والعمل والتفكير وإنماء العقل فيما يفيد هذا هو الإسلام قالت: ماذا أشتغل زوَّجني والدي أثناء امتحان الثانوية العامة سامحه الله كنت ابنته السادسة ووجد والدي فرصة ليتخلص من عبئي على كاهله.
نظر إليها شيخنا بود وحنان وقال: يا بنتي تعلمي قص الشعر، تعلمي الخياطة، اشتري ألبسة من المعامل وتاجري بها، اعملي أي شيء شاي قهوة حلويات ولو بسعر رخيص أولاً حتى يصبح لك رأس مال بسيط لبداية جديدة فتبدئين حياتك بشكل أفضل إن شاء الله، الصبر ليس انتظار الفرج دون عمل، الفرج لا يأتي إلا عندما نعمل ونتوكل على الله الصبر للتفكر في الأفضل وليس الصبر على الموجود، وعلى الوضع نفسه، بل القيام بكل تدبير يوصل للنجاح أنت تستطيعين وإرادتك قوية وستنجحين.
ثم أعطاها بعض المال قائلاً: هذا رأس مال صغير لبداية جديدة خرجت شاكرة تدعو له.
قلت لها: فعلاً حاولي أن تعملي شيئاً قالت سامح الله والدي أعطاني لقريبه وهو يعلم أنه مريض قلب وكان يعمل والحمد لله ولكنه توفي وترك لي هذا الصغير، صدقيني لا أعرف عمل شيء طوال الوقت أصلي وأصوم وأدعو الله ثم بدأت بالبكاء منذ سنة وأنا على هذه الحال قلت لها اعملي أي شيء كما قال شيخنا ولو شاي أو قهوة فشيخنا لن يدوم لنا ودعتني وهي تشد بيدها على المبلغ الذي أخذته وتقول: ادعي لي يا حجّة والله صابرة.
قلت: الله أراد لنا جميعاً كل الخير ووضع لنا طريق السعادة والدين ليس مقتصراً على الصلاة والصوم بل هو تفكر وبذل الجهد والعمل كما قال شيخنا لا يوجد إيمان بلا عمل وبذل جهد فالإيمان يدلك على طريق السعادة.
عدت إلى شيخنا وأنا حزينة لأجلها وبعد فترة طويلة صادفتها في الجامع فطلبت مني محادثتها على انفراد –ظننتها تريد المساعدة- فقالت بفرح: أخبري شيخنا أنني أشتغل الآن فبعد أن خرجت من عندكم وأنا حقاً أفكر ماذا أستطيع أن أعمل كان هناك خياط بجانبنا فمررت عليه وعرضت عليه مساعدته في تقصير بعض الملابس حيث لم أكن أجيد غير ذلك فما كان منه إلا أن صارحني بوضع الشباب الذين يعملون عنده فهم كسالى لا يجيدون حتى صنع القهوة وكم هو صابر عليهم لأنهم أيتام. رنّت كلمة شيخنا في أذني شاي قهوة قلت له: إنني ماهرة في صنع القهوة ولو أردت سأقوم بعمل قهوة جيدة لك كل يوم فوالدي رحمه الله كان لا يحب إلا القهوة التي أصنعها.
سُرّ الخياط لهذا الأمر وقال حسناً ولكن كل شيء بثمنه قلت في نفسي وهذا ما أريده.
ذهبت إلى البيت وفي طريقي اشتريت أفضل أنواع البن والهيل وحدثتني نفسي: مال شيخنا مبارك وسيبارك الله لي فيه إن شاء الله.
جاء ولدي وشم رائحة القهوة وقال: ما شاء الله قهوة منذ متى؟ فأخبرته بما جرى مع الخياط ودعوت الله أن يوفقني وتفاءلت والحمد لله صار عندي زبائن للقهوة أكثر من عشرين محلاً كان الخياط قد دلهم عليّ حتى صرت أحمل عدة ترامس يومياً وأوصلها ثم اشتريت دراجة لابني فصار يوصل ترامس القهوة وتوسع عملي إلى إعداد الشاي والكعك الفلسطيني والكبب واليبرق وغيرها وأنا الآن في يسر اشتريت البيت الذي أسكنه بالتقسيط بعد أن كنت أسكن في غرفة واحدة منه بحمام مشترك.
جزى الله عنا شيخنا والله له فضل كبير عليّ، والحمد لله ابني نجح في امتحان الثانوية بمعدل جيّد وحالياً يدرس ويعمل ويساعدني، تغير حالنا كثيراً ثم تابعت قولها بخجل: وصدقيني صرت أتصدق من مالي وكل هذا ببركة شيخنا وحكمته ووصاياه.
([1]) سنن أبي داود: 3627، كتاب القضاء، باب الرجل يحلف على حقه.
اليأس شأن العاجز
اليأس شأن العاجز
جاءت مديرة المعهد الشرعي الأخت رانيا الملاح مع مدرِّسات المعهد للقاء سماحة الشيخ، فرحَّبتُ بهنّ وجلسنَ يذكرن الله ريثما يصل الشيخ.
وصلنا إلى الصالون… نظر سماحته إليهنَّ مليّاً، مُحيِّياً إياهنَّ بلسانه ومحيَّاهُ قائلاً: (السلام عليكن ورحمة الله)، ثم جلس إليهنَّ ومسح وجهه وقال: (بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، يقول الله تعالى:
{ وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} ([1])).
أعادها ثانية ثم تابع: ({ إِلَّا مَا سَعَى} ([2])، يعني ليس ما تمنَّى بل ما عمل واجتهد، فإذا تناسَبَ العملُ مع الواجب فالنتيجة مضمونة والحصادُ وفير، ثم يقول الله تعالى: { وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى}([3]) يعني للفحص والاختبار لهذا العمل.
يا بنتي نحن مسؤولون عن تغير ما بإمكاننا تغييره، لقد أصبح إفسادُ الأخلاق ونشر الرذيلة صناعة وتجارة وخطة محكمة، ولها ميزانيات طائلة، حتى شارك المسلمون في تهديم الإسلام وتمزيقه من الداخل… ذلك كله لسحب بساط القيم الخالدة المتمثِّلة بالإسلام من قلوبنا وعقولنا.
إن من كيد الصليبيين أن نشروا بيننا وبين العالم فكرة القومية لتفتيت المجتمع، نحن الآن في حرب صليبية أشد من الحروب الصليبية الأولى… كانوا يريدون الأرض، والآن يريدون عقولنا وقلوبنا وتقاليدنا وإسلامنا، وعندها يملكون منَّا كلّ شيء.
ماذا يفعل التلفاز؟!… ادرسوا ما يُخطط لكم ولأولادكم فهو يعرض ويصنع ما يخرِّب أولادنا، ديناً وروحاً وشرفاً وَهِمَّة.
جعلوا أبطال الأطفال الوحوش والفئران والقطط. جعلوا هَمَّهم طعام جديد وفتاتٌ وكولا…الخ. طعامٌ وجنسٌ وكفى لتهديم الأمَّة.
ونحن أيضاً سمحنا لهم بهدم كل الحواجز ليتسللوا إلى قلوبنا وعقولنا وعاداتنا، وكلها فتن.
كلنا مسؤولون ومُحاسبون، وسنقف أمام الله في محكمة الله -عز وجل- الذي يعلم السرَّ وأخفى، كما يقول تعالى: { إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} ([4])، عليمٌ بنوايانا وأهدافنا وأسرارنا، والمسلمون نيام…!
وأوَّلُ خُطوة: نحن بحاجة لمن يوقظهُم بلطف، وليس بفظاظة وقسوة… المسلمون على سكَّة القطار، وقطار الإفساد قادمٌ فماذا نفعل؟.. قال صلى الله عليه وسلم: «المتمسّك بسنتي عند فساد أمتي كالقابض على الجمر»([5])).
ثم نظر إليهن بحنان قائلاً: (لا تخافوا.. لا تيأسوا.. اليأسُ شأنُ العاجز، وشأن العاجز التواكل.. اليأس أن يحكم الحي على نفسه بالموت.. “حسبي الله ونعم الوكيل”: اتركها لله دون عمل أو تخطيط؟!.. “حسبي الله”: يعني تكفيني تعاليم الله لأعلمها، لتُرشدني إلى ما أفعل، وليس ترديدها فقط… إذا دخل المؤمن أي معركة، وضع الله له مخطط النَّجاح ومخطط النصر في كل عمل من أعماله، لذا التعليم إجباري في الإسلام. فَطَلَبُ العلم فريضة على كلِّ مسلم.
من أولويات العلوم: أن يتعلَّم كتاب الله، يفهمه.. ويطبقه.. ويعلِّمه، فتتزكَّى نفسه، ويفلح في حياته وآخرته.
قام رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه المهمة: { رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ} ([6]).
والكتاب ما فرَّط الله فيه من شيء يُحقق سعادة الإنسان وتفوّقه ونجاحه وتميُّزه عن سائر المخلوقات، ومن صفاته: الكتاب الحكيم، والحكمة نصف النبوة، يقول تعالى: { وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} ([7]).
يا بنتي: الحكمة في قمتها فكرٌ وسلوكٌ وأخلاقٌ وحال، فمن تخلق بها يكون ناجحاً حتماً، بدلاً من أن يصل الإنسان إلى مطلبه وحقه بالعنف أو بالسباب والإهانات).
ورفع سبّابته وأشار بيده نافياً: (ولن يصل..!، بل يستطيع أن يملك القلوب بالحكمة واللطف والإحسان: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} ([8])، بل: { وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } ([9])، يجب تقديم الأحسن.
الإسلام دين الإتقان، دين الأحسن في كل أمر وفعل{ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} ([10])).
صمت قليلاً ثم خاطبهن برجاء: (أرجو أن يكونَ سلوككنَّ كما أمر الرسول صلى الله عليه وسلم: «من كان له صبي فليتصابى له»([11]). قال صلى الله عليه وسلم:
«لا يكون الرفق في شيء إلا زانه»([12]). مُهمةُ المعلم امتلاك النفوس والقلوب حتى يصل إلى العقل، وبالحكمة.. والمودة.. والتواضع.. والحنان.
يا بنتي إبليس بعد عبادة آلاف السنوات صار ألعن الخلق!… خرَّب بيته بأناهُ: { قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ } ([13]). هل ربح إبليس؟ هل قُدِّس؟ هل رُحِمَ؟
الأنا يجب أن تمحى، الأنا هي الهوى، والعظمة أن نتخلَّص من الأنا إلى (نحن)، إلى رضاء الله.. الأنا إذا دخلت وتعمَّقت خرَّبت كل شيء!.. كل شيء!.. يقول الله تعالى: { أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} ([14]).
كونوا في موقع الشعور بالمسؤولية أمام الله عز وجل. وبالإخلاص باللسان والقلب، والرجاء مع العمل يكن لكم ما تريدون، قال سبحانه وتعالى عن سيدنا إبراهيم عليه السلام:
{ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً} ([15])، يعني وحده أمة، والأمَّة معلِّم الناس الخير).
واعتدل جالساً وقال: (فتح المسلمون نصف العالم القديم في أقل من مئة سنة، وهم لم يقرؤوا هذه المجلدات والكتب..!
يا ترى لو قرأ أحدنا كل هذه المجلدات، هل سيبلغ درجة الصحابة العظيمة، والتي ما وصلوها إلا بحبّهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم وامتزاج الروح بالروح، وتقليدهم إياه حتى في أبسط أمور الحياة؟.
الصحبة؛ تخلل الحبَّ في القلب والخلايا والشرايين، حتى يُصبح مثله «المرء على دين خليله»([16])، حتى تسري فيه أخلاقه وإيمانه).
أمسك سماحته بكأس الماء ليشرب ثم تابع: (المرأة الضعيفة المضطهدة قبل الإسلام، ماذا صارت بحب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟… “نسيبة رضي الله عنها تقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم في المعركة وهي تصدُّ عنه الرماح: صدري لصدرك وقاء، روحي لروحك فداء”([17]).
أمُّ الدرداء الصغرى كان يحضر مجلسها عبد الملك بن مروان في الجامع الأموي بدمشق صارت معلمة الملوك، وأيُّ ملوك؟ كانوا يملكون نصف العالم!.. هذه هي المرأة في مدرسة الإسلام.
ليست المرأة التي تربي أولادها فقط، هذا شأن القطة!.. المرأة في الإسلام هي التي تربي وتصنع أبناء وبنات الإسلام والعبرة بمن يصنع العقل فيملؤه ويغذيه حكمة، والقلب نوراً وخشية ومراقبة لله.
هكذا تغيرت المرأة وهذه المرأة قدوتنا).
ثم نظر إليهن بحنان وهو يضع الكأس دون أن يشرب منه وتابع: (يا بنتي كما يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «المؤمن يألف ويؤلف ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف»([18]).
وربنا سبحانه وتعالى يخاطب نبيه صلى الله عليه وسلم: {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ}([19])، لانفضوا ولم تقم قائمة الإسلام وهو سيد ولد آدم وكما وصفه تعالى: { وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ}([20])… المعلم لا يعلم بالأقوال، ولو أعدَّ الدرس إعداداً جيداً، بل التعليم بالقدوة، بالأخلاق والسلوك وتعليم الحكمة، لتنجح مع الخالق والخلق، ثم التزكية والتذكير بالله وبذكره في كلِّ الأحوال، خاصَّة في حال تغلب الهوى على التقوى.
هكذا يجب أن تكون المربية، وإلا يجب إرجاعها إلى مرحلة التلمذة لإعدادها أولاً قلباً وقالباً… صاحبة القلب تصنع القلوب، ولن تتعلَّق التلميذة بالله إلا إذا ارتبطت بمن تعلَّق بالله حقيقة… مهمة المعلمة بناء شخصية البنات الإيمانية، الروحية، التعليمية والعلمية… تحفّزها للعمل، للاستقامة، للنجاح والتفوق… ولكن ليس بالجفاء والقسوة والعنف والتكبُّر!. بل بالتواضع واللطف والحنان تملك القلوب، ومن ثم العقول.
رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم كان يخلع رداءه للأعرابي، وكان يجلس على التراب لِيُجلس ضيفه على عباءته).
ثم سأل الأخوات: (ماذا يقول رسولنا الكريم في التكبُّر؟).
قالت إحداهن: «لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر»([21]).
ردَّد شيخنا: (مثقال ذرة من كبر)… ثم أتبع: (يا بنتي أتعرفين الذرة؟. من تواضع لله رفعه، القلوب لا تُملك بالشدّة ولا بالعصا!.. بل تُملك بالصفح والعفو واللطف.
كل واحدة منكن يجب أن تكون كالأم مع ابنتها الوحيدة، والتي قد تكون مريضة أيضاً، فكيف يكون إقبالها وعطفها ورعايتها لها؟، تضع لها السكر في الدواء حتى تقبله.
رسولنا صلى الله عليه وسلم يقول: «إنما بعثت معلماً»([22])، وهو الجناح الأول.
«إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق»([23])، وهو الجناح الثاني.
لأن الإسلام يقوم على الأمرين معاً، التعليم ينمي العقل بالمعرفة الصحيحة عن الله والحياة، والتربية تتعهد النفس وتسمو بها.
والعلماء ورثة الأنبياء، وما كلُّ قريب للميت يكون وارثاً، الوارث الحقيقي الذي تكون مهمته كمهمة النبي: التعليم، التزكية، الحكمة، الأخلاق).
شرب الشيخ قليلاً من الماء ثم تابع: (البنات أمانة في أعناقكن، فإذا أحسنتنَّ التربية فكل بنت ستكون مدرسة… كثير من طلابنا تخرجوا ورجعوا لبلادهم وفتحوا معاهد للإسلام في بلادهم وفي الشرق والغرب.
وأكرر يا بناتي: يجب أن تكون كلُّ واحدة منكنَّ المربية الحنون مع الجميع… املكوا الطالبات بالبسمة الحانية والكلمة الطيبة، وتذكروا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تبسمك في وجه أخيك صدقة»([24])، «الكلمة الطيبة صدقة»([25])).
وابتسم بحنان: (إذن أكثروا من الصدقات.
املكوا قلوب البنات المسيئات، عاملوهنَّ كأنهن بناتكن، وابذلوا لهن من الدواء بحسب ما تَتَقَبَّلُ نفوسُهنّ، والدواء ليس بالسوط!..، هذا ليس أساس التعليم.
نحن الآن في حرب صليبية فوقها كلُّ حرب أخرى، والمذهبيون المتعصبون قزّموا الإسلام بعدم فقههم لعمق الإسلام وكنوزه… والصليبيون الجدد دسوا السم في طعامنا وفي عاداتنا، وفي تقاليدنا وأخلاقنا.
صدق رسولنا الكريم: «تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة على قصعتها»([26])، فانتبهوا واحذروا…).
ثم تنهد وهو يقلبُ كفّيه قائلاً: (يا ليت قرآننا وسيرة نبيِّنا تُقرآن كما تُقرأ الصحيفة والقصة… كلّ آية في القرآن، كل ما حُدِّث عن رسول الله، حتى نتعلم كيف نتحمل المشاق، وكيف يكون عملنا كله لله؛ كيف نخاف على ديننا، ونحن الرابحون حقاً.
يا بنتي كل عبادة إذا لم تؤدِّ الغاية والعبرة منها تكون قشوراً وطقوساً.
التعلُّم والتعليم عبادتان، والهدف سعادة الدنيا إلى أن نصل إلى سعادة الآخرة، ولا تكون سعادة الدنيا والآخرة إلا بالسير على منهج الله، ومخطط الله، وبرنامج الله القرآن؛ هذه خريطة الله التي تكفل سعادة جميع البشر.
يا بنتي كوني الأم المشفقة الحكيمة المخلصة، «ما خُيِّر رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً»([27])، ونحن لا نفرض آراءنا جبراً وقسراً، حتى لا يقع الآخرون في الحرج، والمهمَّة ليست فقط تعليم المادة المطلوبة.
المهمة الأكبر إيقاظ الإيمان والضمير في قلوبهنَّ وتمكين الصلة بالله، بالحب الإلهي كل شيء يتغير… فالتربية والتزكية وتعميق مراقبة الله في النفوس، هذا هو الهم الذي يجب أن نعمل له.
والناس الآن يجهلون إسلام القلب، وإسلام الكلمة؛
كلمة لا إله إلا الله.
وإسلام: {بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} ([28]).
وإسلام: { وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ } ([29]).
إسلام: { وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ }([30]).
القوة في الجيل الجديد من الشباب: قوة العلم والعمل والإخلاص والتعليم، قوة الدعوة إلى الله… وهذا لا يكون دفعة واحدة… أنتم في نعمة من ذهب، أن تكون كل منكنّ معلمة للآخرين، هادية لهم، حتى تكون هدايتهم وصلاحهم ودعوتهم في صحيفتها إلى يوم القيامة… والله لو بذلتن أرواحكن، فالنعمة التي أنتُنَّ فيها أكثر بكثير… «لأن يهدي الله على يديك رجلاً خير لك مما طلعت عليه الشمس»([31]).
ركِّزوا على حُبِّ الله ورسوله، وعلى الحب في الله، وعلى تعميق الشعور بمعيَّة الله.
رسولنا الكريم يقول: «المرء مع من أحب»([32]).
إذا لم تجدوا حرارة الحبّ لله، والحب في الله لن تجنوا شيئاً، المهم أن تعلموهنَّ حبَّ الله وحب الرسول، عند ذلك يمتثلن أوامر الله تلذذاً وسروراً، ويصبحن قرآناً متحركاً للمسلمين ولمن حولهم، والناس بخير، مثلهم مثل الأرض العطشى… المهم كيف نحرث الأرض ونسقيها ونشذبها من الحشائش الضارّة، وباللطف.. والحبّ.
إذا أحسنتُنَّ أداء هذه الأمانة فقد أنجزتُنَّ عملاً عظيماً.. عظيماً عند الله وعند الناس.
قد توجد مدارس شرعية كثيرة لكن لا توجد في كثير منها تربية روحية حقيقية.
وفقكم الله لخير الإسلام، وجعلكم غيثاً ينبت الزرع أينما حللتم).
غادرت الأخواتُ وفي قلوبهنَّ وأنفسهنَّ عزم ونيةٌ صادقة على امتثال وصايا الشيخ، ورجاء من الله أن يجعلهن من اللواتي يستمعن القول فيتبعن أحسنه.
([1]) سورة النجم، الآية: (39).
([2]) سورة النجم، الآية: (39).
([3]) سورة النجم، الآية: (40).
([4]) سورة الملك، الآية: (13).
([5]) رواه الحاكم (1/119)، عن ابن مسعود رضي الله عنه.
([6]) سورة البقرة، الآية: (129).
([7]) سورة الأنبياء، الآية: (79).
([8]) سورة البقرة، الآية: (83).
([9]) سورة الإسراء، الآية: (53).
([10]) سورة فصلت، الآية: (34).
([11]) أخرجه ابن عساكر عن معاوية، وقال: غريب جداً.
([12]) أخرجه البخاري في الأدب، والضياء عن أنس.
([14]) سورة الجاثية، الآية: (23).
([15]) سورة النحل، الآية: (120).
([16]) أخرجه أبو داود والترمذي وقال: حسن. وأخرجه البيهقي في الشعب، وأخرجه أحمد والحاكم وقال: صحيح.
([17]) السيرة النبوية لابن كثير، ج3.
([18]) رواه الطبراني عن سهل بن سعد بإسناد جيد. وأحمد والبزار عن أبي هريرة، ورجال أحمد رجال الصحيح.
([19]) سورة آل عمران، الآية: (159).
([20]) سورة القلم، الآية: (4).
([21]) رواه مسلم في الصحيح، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
([22]) أخرجه الدارمي (1/99) من طريق عبد الله بن يزيد، وابن وهب في “المسند” (8/164)، وعبد الله بن المبارك في الزهد.
([23]) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى، عن أبي هريرة رضي الله عنه.
([24]) أخرجه الترمذي في السنن، عن أبي ذر رضي الله عنه.
([25]) أخرجه البخاري، عن أبي هريرة رضي الله عنه.
([26]) أخرجه أحمد وأبو داود عن ثوبان رضي الله عنه.
([27]) أخرجه البخاري، عن عائشة رضي الله عنها.
([28]) سورة التوبة، الآية: (128).
([29]) سورة المنافقون، الآية: (8).
([30]) سورة الأنفال، الآية: (60).
([31]) أخرجه الحاكم في المستدرك، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
الصبر شطر الإيمان
الصبر شطر الإيمان
ربيع 1998
في السنوات الأولى من زواجنا اعتدت المشي في المزرعة أثناء قيلولة شيخنا مع مجموعة من الأخوات، وذات يوم زارتنا ابنة شيخ كبير من جامعنا تمشيت معها ولمحت في وجهها الحزن سألتها بحنان ما بك؟
فانفجرت بالبكاء وأخبرتني عن حياتها الزوجية الفاشلة التعيسة التي تعانيها وتابعت، لقد أخذ ابني معه إلى زوجته الجديدة وعندما لحقته لأمنعه أسرع بالسيارة فوقعت وأنا أحاول أن أتمسك بالسيارة وجرحت ولم أعد أرى ابني.
انزعجتُ مما سمعتُ وبكيتُ معها وإذ بأحد الشباب يخبرنا بأن شيخنا استيقظ حملت له كأس الشاي الأخضر بالنعناع المحبب له ودخلت عليه وفي وجهي أسى سألني ما بك؟
أخبرته بزيارة الأخت (بنت الشيخ الفلاني) وأنها تعيسة جداً ثم ناديتها وحدثتْه بما جرى وكنت أبكي معها وهي تتكلم.
واساها شيخنا وقال: اصبري يا بنتي ليس بعد العسر إلا اليسر ألا تصدقين الله { فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا }([1]).
يا بنتي الصبر شطر الإيمان فلا تفقدي صبرك والتصبر مع الصبر إذا كنت مع الله فلا شيء يغلبك.
الصدق مع الله يثمر نجاحاً فوق قدرات العقل والتفكير مع الله يعني مع مخططه لأن مخطط الله ناجح دوماً، وضع يده على رأسها ودعا لها، وخرجت بوجه مستبشر وقلب مطمئن، شكرتني كثيراً، وعدت إلى شيخنا وأنا أخبره عن ألمها فقال لي:
بابا الداعي إلى الله يشعر بشعور الآخرين ويرأف بهم ولكن لا يجعل نفسه جزءاً من المشكلة بل ينظر إليها بعين قلبه بعيداً عنها، فيراها من بعد فيستطيع حلها، والحل يكون عندما ينظر الإنسان من جوانب المشكلة ويُوحِدُ البدائل والحلول، المفتاح بيدها وهذا تحفيز لها للخروج من مشكلتها التي لن تتغير لأننا دائماً نظن أن لا خيار لنا والغير يقرر لنا نحن لنا إرادة ووجود ومسؤولية نحن لنا مشيئة وحرية واختيار، ولنا قرار علينا أن نأخذه فلنعمل عقولنا ضمن تعاليم الله فإنها أنفع وأخطر قوة، يعيش الإنسان بلا تعاليم الله، تحت وطأة الأنا التي تخيف أكثر من زوجها.
أكثري من ذكر الله حتى تعشقي الله محبة الله ليس لها حد، عندما يفتح الله عين قلبك تعرفي طريقك.
ثم خرجت إليها سألتها عن دراستها وكانت قد أنهت دراستها في كلية الدعوة طلبت منها أن تعادل شهادتها وتسعى لإيجاد عمل وتشغل نفسها، وتكون مع الله ولا تخاف.
وسبحان الله بعد مدّة لم نتصور أن تعادل شهادتها، ولكن استطاعت ذلك وبدأت بالدعوة إلى الله في أحد المساجد وصارت من الداعيات ولها من الأخوات ما أنساها مشكلتها، وأعاد زوجها لها ابنها وتكفل ببعض حاجاتها وتمالكت نفسها، ولكن كانت قد وقفت على قدميها.
أنتِ بالإيمان سيدة أي مكان
أنتِ بالإيمان سيدة أي مكان
أنت بالإيمان سيدة أي زمان
أنت بالإيمان ملكة الإمكان
تزلزلين الجبال تُنبتينها ورداً وحباً
زرنا عُمان في طريق عودتنا لدمشق بعد زيارة اليابان، نزلنا في أحد قصور السلطان للإقامة فيه وفي اليوم التالي زار شيخنا السلطان قابوس وعاد مسروراً معجباً بفكر السلطان وعقله وقال لي: غداً ستقابلين أخته فقد طلبت لك موعداً، أحسست بالقلق فقلت سيدي إنها ليست مريدة حتى تسمعني بشغف، سلطانه عاشت في بريطانيا ماذا ستجد في حديثي قال: لا تخافي لقد شربتِ الكثير والمهم بذل الجهد والواجب يا بنيتي الإيمان يعلو ولا يعلى عليه.
قبل الموعد المحدد رجوته أن نذكر معاً حتى يخف قلقي وبعد العصر جاءت شابة عمانية لتوصلني إلى السلطانة، قبلت يد شيخنا طالبة منه الدعاء لي فقال مُطمئناً: سمعتِ الكثير مني وأنت بالإيمان سيدة أي مكان وأثناء الطريق كنت أردد لنفسي أنت بالإيمان سيدة أي مكان سيدة أي زمان ملكة الإمكان.
استقبلتني السلطانة فرِحة وقالت رأيت الشيخ مع السلطان في التلفاز فرغبت كثيراً في رؤيتك واتصلت فوراً طالبةً لقاءك فعلمت أنهم رتبوا الأمر وكان هناك فتيات صغيرات ينشدن لها ثم غادر الجميع نظرت إليّ ملياً قائلةً:
أعتقد أنك تحملين فكر الشيخ وروحه وشربت منه الكثير بحكم ملازمته ومجالسته. نظرت إليها بدهشة وقلت في نفسي سبحان الله ما أطيبها وأطيب معدنها –كما ذكر شيخنا أناس طيبون على الفطرة- جلست بقربي قائلةً: أحسست بقلبي أنك تحملين لي سعادةً.
قلت لها بخجل أنا سعيدة بلقائك وذكرت لها صدى لقاء السلطان بشيخنا وإعجاب الشيخ بفكره وعادته في زيارة أي بلد من البلدان ولقائه الملوك والرؤساء وحديثه معهم عن الإسلام وعظمته وسبل الطريق لانقاذه حيث يقدم الحلول لإعادة مجده، ثم تابعتُ قائلة:
صدقيني كلما رأيته حزيناً أو واجماً أحاول مواساته وإدخال السرور عليه فيرد عليّ مهموماً: أنا لا يهمني إلا الإسلام وأخاف من تقصيري أمام ربي.
رددت باسم الله، ما شاء الله، حقاً ما أعظم أن تعيشي مع عالِم تحملين همه وتشاركينه أمله.
ثم ذكرت لها تأكيده حتمية نجاح الإسلام وحقيقته وشعورنا الدائم بمعية الله معنا يرعانا ويحمينا فأكسبنا قوة الأمل مع همة العمل فصارت تردد “باسم الله ما شاء، اللهم صلِ على سيدنا محمد وآله”.
أعدت عليها ما يقوله شيخنا دائماً “إن الإنسان أخو الإنسان يحس بألمه وفرحه، وفطرة الإنسان تميز بين الحق والباطل لذلك لا بد من تغلب الفطرة عليه ويعود الإنسان إلى خالقه وأن الطريق قد يطول وقد يقصر يطول إذا بقينا في غفلة وغفوة عما يجب أن نفعل إذن يطول بإرادتنا ويقصر بإرادتنا.
فالإيمان ينقص ويزيد كما أخبرنا رسولنا الكريم، والصحبة تزيده أو تنقصه بحسب الصاحب، سرّت بما قلته وقامت لتأخذ ورقة وقلماً لتسجل ما سمعت وهي ترددُ باسم الله ما شاء الله لا قوة إلا بالله من أين لك هذا؟ قلت –وكأن شيخنا يحدثني ما أقوله-:
“إن الغافل عن ذكر الله يستوحش حتى من ذاته، ويضيق ذرعاً حتى بما يسليه، فيكون متردداً على الأطباء النفسيين وقد يصل للإدمان والانتحار لذلك كان شيخنا ينصحنا بقوله: “رأس مالكم القلب لا يكون فارغاً من حب الله وذكر الله”.
فالأصل دائماً الحب، وحب الله يوصلك إلى الهمة والنجاح وهمة شيخنا عظيمة حيث كان الناس يظنون أنه يفكر باللامعقول ولكنه جعل من جامعه الصغير جامعاً ومجمعاً وحقيقة واقعة كل ذلك بجهوده واستمراريته واهتمامه حتى بأدق التفاصيل ليكون العمل كاملاً ويقول: “الآن طاب العمل”.
كانت تهز رأسها مبتهجة بما تسمع ثم تابعتُ:
الإيمان مع المربي نقله في الشخصية المسلمة من درجة العوام إلى الخصوصية والتميز صدقيني المربي مفتاح السعادة لأنه يمشي على خريطة الله الناجحة أبداً حتى يصل بأقرب طريق فلا يبدد الطاقة في البحث فيما لا طائل فيه فالأبواب مفتوحة للصادقين وشيخنا المربي يدعونا دائماً للتفاؤل ناصحاً بقوله:
“لا تيأسوا اليأس شلل، والعمل يقوى بالأمل، وبالإرادة المخلصة، احذروا الأهواء، كونوا جسوراً لبعضكم، كونوا جسوراً فيما بينكم حتى تجتازوا الصعاب، كونوا أطباء لا قضاة تحكمون على الناس ولا تعالجونهم”.
قامت السلطانة تبحث عن ورقة جديدة لتكتب كلمات شيخنا وهي تصلي وتسلم على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، تمهلت قليلاً ثم أعدت كلمات شيخنا وهي تكتب فرحة “كونوا مطراً كونوا عطراً” المهم أن نحب الله وأن نعلم من حولنا حب الله إيمان بلا حب لا ثمرة.
ثم استأذنتها بالانصراف قائلةً: قد يقلق الشيخ عليّ وهو وحده قامت تودعني شاكرةً لقد أرسلك الله لي فجزاك الله خيراً من مبلِّغة.
عدت إلى شيخنا ووجدته قلقاً من طول الغياب وحدثته عن سعادة السلطانة وتجاوبها لحديثي فقال:
حقاً ما رأيت إنساناً لا خير فيه يا بنتي المرأة ليست فقط التي تربي أبناءها وتغدي أجسادهم فهذا العمل من بديهيات الحياة ولكن المسلمة تبني كل من تتصل به علماً وروحاً وفكراً شدي الهمة العمر محسوب بالدقائق ورسولنا الكريم كان يدعو قائلاً اللهم اجعل خير أيامي يوم ألقاك.
يعني التقدم الروحي لأخر يوم في حياتنا هذه حلاوة الإيمان.
وهو آت ان شاء الله
وهو آت ان شاء الله
مع الوفد الألماني خريف 2002م
دخل الصحفيون الألمان وهم يتفحصون المكان، رحب بهم شيخنا ثم قال:
الإنسان هو المرعب والمخيف للإنسان وما يخيف الآن أكثر تقدمه العلمي إذا كان الخطر معروفاً فالخوف منه أقل كمعرفة خطر الأفعى. أما إذا كان اختلط السم بالحلوى ولا ندري فهنا الخطر أشد والإنسان الآن بين أمرين بين السمّ وبين الحلوى.
فهل نستطيع أن نختار الحلوى ونتجنب السم بأن نجمع بين التعاليم الإلهية المصفاة، والتي تحول الإنسان الحيواني والوحشي إلى الإنسان الإنساني ونصفِّي الدين مما يخالف العقل الإنساني.
الدين بمعناه الحي كماء السماء بصفاته، لا حياة للإنسان بدونه ويصبح قاتلاً إذا اختلط بالسموم والأقذار، للأسف رجال الدين لا يظهرون هذا الجمال بصفته الحقيقية.
نحن نتحمل مسؤولية كبيرة في الدفاع عن السلام وليس السلام فقط بل لننتقل إلى أهداف تعاليم الله؛ أن نجعل الإنسان أخا الإنسان أحب أم كره لننقذ الإنسانية وقد صار الفتيل يقترب من نقطة الانفجار فهل نصمّ الآذان أو نغمض الأعين عن هذا الخطر الذي دونه خطر الأفاعي والحيوانات المفترسة كل واحد منا يجب أن يقوم بهذا الواجب وإلا فالنتائج معروفة وأي خطر سيواجهنا لو حمل كل فرد في العالم السلاح ليقتل ويحارب أخاه الإنسان.
الحل أن نعمل وبشكل جدي لنتفهم دين الله الذي جمعه الله في القرآن لكل ديانات أبناء السماء.
الخير قريب وقادم ولا بد من التعاون في كل عمل لتحقيق الحياة السعيدة الآمنة والإخاء العالمي والسلام العالمي وهو آت إن شاء الله.
قال رئيس الوفد متفائلاً:
لقد أوصلتم لنا منظوراً مختلفاً عن الإسلام وتوجهاته. ونرجو أن نصنع السعادة من الآن معاً.