حياة الوردة
كان الجو صباح الجمعة حاراً جداً.
وكان شيخنا متعباً، فقد جاوز التسعين، ولم ينم معظم ليله وهو يعاني تقطعاً في دقات القلب وقد تناول الكثير من أدويته.
جعل يتحسس صدره ويحاول الضغط عليه.
سألته بلهفة وقلق: أرجوك ما بك؟
فقال بغير اهتمام: (إنه ألم قديم).
بدأ ذلك الألم بعد إحدى سفراته إلى بيروت لمعالجة والده الشيخ أمين -رحمه الله- لقد كان الجو بارداً جداً وكان زجاج نافذة السيارة مكسوراً فقام شيخنا بسدّ النافذه بصدره طوال الرحلة خوفاً على والده وشيخه.
اغرورقت عيناي وقلت متوسلة: أرجوك ارتح قليلاً، أرجوك نم قليلاً.
فنظر إليَّ حانقاً: (ليس لي رغبة بالنوم، كفاني نوماً، غداً سننام طويلاً).
فقلت حيرى: والله حيرتني ماذا أفعل؟
فقال باسماً حانياً: (الله يرضى عليك).
جاء الدكتور “أويس” ونصح شيخنا بعدم الذهاب لإعطاء درس الجمعة لأن الجو حارٌّ جداً، ولأن ازدحام الجامع سيزيد رطوبة الجو وحرارته وبالتالي سيزداد تعبه، ولكنه أصرَّ على الذهاب، وقال بأنه تخلف عن واجبه الأسبوع الفائت بسبب الحر، واليوم سيحضر المحاضرة وفد كبير من أساتذة الجامعات ومسؤولون من هيئة الأمم المتحدة، لذلك لا بد من الذهاب للمحاضرة.
رجوته كثيراً، فصار يردد: (سبحان الله.. سبحان الله.. كان يجب أن نسافر إليهم لنعرّفهم بالإسلام، الآن يأتون إلينا ونتأخر عليهم!..
هذا فرض يابنتي، هذه فرصة للتعريف بالإسلام).
ثم قام وهو يحاول إظهار النشاط، توضأ وصلى الضحى ثم نزلنا بالسيارة.
كان يضع يده على جبينه ورأسه ويردد:
(سبحان الله الحمد لله).
رجوته أن لا يطيل الدرس فردّ مشفقاً عليّ:
(إن شاء الله، إن شاء الله).
بدأ الدرس، وطال الدرس ولم يحضر الوفد لتأخره في تدمر -كما قالوا- فوعدهم مساءً.
عند العودة كان متعباً، تناول لقيمات وصلى العصر ونام طويلاً، وعند استيقظ قال بلهفة:
(هل جاؤوا؟).
فأجبته بأنه قد تم تأخير الموعد إلى صباح السبت -مع أننا لم نكن نَعِدْ أحداً يوم السبت بناءً على تعليمات الأطباء وذلك ليرتاح من مجهود يوم الجمعة- عندها ظلّ ممداً مرتاحاً حتى المغرب.
كنت أتفقّد نبضه وضغطه من حين لآخر وهو مغمض العينين ذاهل عن كل شيء سوى الحوار الذي سيجري غداً.
في المساء كان نومه قلقاً، كنت أحسّ بتعبه فقد كان يتنفس بقوة وبصوت مسموع، كنت ألمسه برفق لأطمئن عليه فيقول: لا تخافي أنا بخير.
استيقظ لصلاة التهجّد والفجر رغم تعبه، وصار يتحسّر لأنه في الشباب كان يستيقظ قبل الفجر بثلاث ساعات، ثم بعد الفطور تناول أدويته ونام طويلاً.
بقيت بجانبه قلقة، ولم أستطع إغماض عيني خوفاً عليه.
وصل الوفد وصار يتجول في المزرعة، وتساءل الإخوان هل استيقظ شيخنا؟
كان ما يزال نائماً، ولكني خفت أن ينْزعج إن هو تأخر عن موعده، فدخلت الغرفة مشفقة عليه، وحاولت أن أتحرك محدثة حركة خفيفة عله يستيقظ بنفسه.
فتح عينيه قليلاً وسألني: (وصل الوفد؟).
فأشرت له: نعم.
فرفع صوته بحدة متسائلاً: (هل وصل الوفد؟).
قلت وجلة: نعم، نعم، الآن وصل.
فقام بلهفة وساعدته في ارتداء لباسه، وتقدم إلى غرفة الضيوف بسعادة وعنفوان أنساني بهما تعبه ومرضه.
ما إن استقر في جلوسه وشمّ وردته المفضّلة بعمق وكأنه يهدّئ ألم قلبه برائحتها الزكية حتى دخل الضيوف بهدوء وسكون.
كانوا يحيوننا بإيماءة خفيفة، وقد وضعت نساء الوفد غطاءً على رؤوسهن هيبةً واحتراماً.
بعد تبادل التحيات قدّم شيخنا لرئيس الوفد وردةً أخرى رائعة ذات رائحة جميلة قائلاً بصوت متعب: (هذه حياة الإنسان بهذا الجسد على هذا الكوكب).
فأجاب رئيس الوفد مغتماً ومبدياً أسفه:
فعلاً لسوء الحظ، إنها حياة قصيرة جداً.
ردَّ شيخنا مبتسماً وكأنه استعاد نشاطه:
(لا.. أبداً.. هذه الحياة جعلها الله للإنسان تمهيداً واستعداداً لحياة أرقى وأجمل).
حياة الأبد.. وجنة الأبد.
نظر الضيف إليه ملياً متفكراً.
ثم تابع شيخنا ضاحكاً: (بشرط أن يدرس الإنسان بجدٍ وعمل في مدرسة الله حتى يصير إنساناً حقيقياً،… خلق الله هذا الإنسان وأرسل إليه خريطة النجاح والسعادة بوساطة أنبيائه،… غداً عندما نخرج من هذا الجسد، هذا الجسد من التراب وإلى التراب يعود، تعود أرواحنا إلى بارئها إلى ملكوت السموات والأرض، لتحصد ما زرعت على هذا الكوكب إن خيراً فخير وإن شراً فشر، ولو كان مثقال ذرة).
تمتم معظم أفراد الوفد بعبارةٍ غير مفهومة!!!
نظر شيخنا للضيوف مبتسماً مطمئناً وتابع وقد تهدج صوته: (الجنة ممنوعة علينا ما لم نتحابّ في الله ونعيد السلام لهذا الكوكب، يقول رسولنا الكريم عليه الصلاة والسلام: «والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أولا أدلكم على شيء إن فعلتموه تحاببتم، أفشوا السلام بينكم»([1])).
الجنة ممنوعة علينا ما لم نتحابّ في الله ونعيد السلام لهذا الكوكب
كرر بقوة: (أفشوا السلام بينكم).
ثم وضع ساقاً على ساق وقال: (يعني أن يكون الإنسان سلاماً على أهله وجيرانه وكل الآخرين، يده سلام، ولسانه سلام، ورجله سلام، حتى يكون المجتمع كله سلام).
ثم تابع بحزم: (العالم الآن مهدد بأخطار كبيرة، كان الإنسان يخاف من الوحوش، صار الإنسان يخاف من الإنسان!
الوحوش تهاجم الإنسان بواقع جوعها، والآن الإنسان المتخم هو الذي يهاجم ويعتدي ويغتصب، صار الإنسان أكثر وحشية من الوحوش!
الوحوش تهاجم الإنسان بواقع جوعها، والآن الإنسان المتخم هو الذي يعتدي ويغتصب
كل ما يملكه الوحش أظافره وأنيابه، والإنسان الآن يملك الصواريخ والأسلحة ليقتل بها الإنسان والحيوان والنبات ويفسد حتى البيئة، فأين السلام؟).
ران الهدوء على الجميع ونظروا إليه فكأنه قرأ ما يجول في أفكارهم.
تنهد بقوّة وتحسس نبضه وتابع وعيناي تلاحقان حركاته ودموعي تتوسل إليه بوجل:
(ما أحوج إنسان هذا العصر أن يعود إلى المنقذ الوحيد؛ مدرسة الله؛ الإيمان ولكن برجاله الحقيقيين).
ما أحوج إنسان هذا العصر أن يعود إلى المنقذ الوحيد؛ مدرسة الله؛ الإيمان
سأله أحد مسؤولي هيئة الأمم:
ما الذي يمكن أن نفعل؟ ألا يمكن لهيئة الأمم ومجلس الأمن أن يفعلا شيئاً؟
اعتدل شيخنا في جلسته قائلاً بحزم:
(يا ابني كلنا يعلم ما توصل إليه الإنسان من الأسلحة المدمرة لحياة الإنسان والحيوان والنبات وحتى الوجود على هذه الكرة الأرضية، لقد وضعوا اللغم في أساس هيئة الأمم ومجلس الأمن، حيث شُلّت أحكامهم بالفيتو.
حكم مجلس الأمن على نفسه بالإعدام فألغيت العدالة… ما بهذا يصلح العالم. ما بهذا يعم السلام!!)
كان يوزع نظراته على الجميع وأحسّ الجميع بأنه يقصدهم فيما يقول وتابع:
(صار الإنسان الضعيف كالغنم بين الحيوانات المفترسة… القوي يقتل الضعيف.
فأيّة محكمة؟
وأيّة هيئة أمم؟
وأي مجلس أمن؟
وأي سلام سيكون؟
الآن مهما ضعف الإنسان فإنه يستطيعُ من خلال خوفه وعدم أمانه أن يحيق الأذى بالآخرين -ورفع إصبعه- مع إني لا أقر بذلك… وحال الإنسان المقهور الآن كالقصة التالية:
كان لأحد تلاميذ والدي رحمه الله قطّ…) -بدأ القصة، ولتعبه طلب من المترجم الأستاذ فاروق إتمامها- (ومن جوعه كان يفعل ما أزعج صاحبه منه، فحصره في الغرفة وأمسك العصا يريد قصاصه، فهرب القطّ إلى مكانٍ مرتفع في الغرفة. وعندما لم يجد القطّ أمامه سوى العصا، انقضَّ على الرجل وعضّه من عنقه لدرجةٍ أن الرجل استغاث بأهله، ولولا دخول أهله لإنقاذه لكانت الغلبة للقطّ!).
ضحك الجميع وتابع شيخنا: (الضعيف إذا وصل إلى درجة اليأس… ميت ميت، فيستأسد… فلا يغترَّ القوي بقوته.
السلام لا يكون إلا إذا بدأ بين الإنسان وربه، أي إذا صالح الإنسان ربَّه، وامتثل لأوامره وانتهى عن محارمه، والتزم تعاليم أنبيائه -الذين هم سفراء لإله واحد- وما جاءت تلك التعاليم إلا لسعادة الإنسان كل الإنسان.
هل المسيحي الآن يمثل سيدنا المسيح وتعاليمه؟
هل المسلم هكذا؟)… وأشار بيده نافياً… لا!.
سأله أحدهم وهو ينظر بتحدٍّ:
ما تقول في الجهاد في الإسلام؟ أليس بعداً عن السلام؟…
قال شيخنا بهدوء:
(الجهاد في الأصل بذل الجهد من أجل صنع الإنسان الفاضل ولإنقاذ الإنسان الضعيف من الإنسان الظالم ولتحقيق السعادة لكل أصناف البشر.
والجهاد الأكبر الذي جعله الإسلام عظيماً هو الانتصار في المعركة المقدسة بين الرغبة والأنا وبين أوامر الله ولتكون الغلبة لأوامر الله، فيعيش الإنسان جنة الدنيا قبل جنة الآخرة).
ثم تابع شيخنا بهدوء وكأنه يتكلم من مكان بعيد:
(بقدر ما يبتعد الإنسان عن الله يفقد السيطرة على نفسه، على شهواته، على تسلطه، فيميل إلى العدوان والظلم رغبةً منه في تحطيم الآخرين وإخضاعهم لمصالحه، وبقدر ما يقترب من الله يحب الله فيطيعه، ويشعر بالتوازن في نفسه، وبالسيطرة على نوازعه الشريرة، ويقوده حب الله وخوف عذابه إلى احترام الآخرين ومساعدتهم.
بقدر ما يبتعد الإنسان عن الله يفقد السيطرة على نفسه
الإسلام جعل الإنسان أخاً للإنسان -وأقسم بصوت قوي-: والله ما دمنا نسير على مخطط الله فالنتائج مضمونة، وسعادة العالم محققة لأن خالق الخلق أعلم بما يصلحهم ويسعدهم.
يقول تعالى في قرآننا العظيم:
{ أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ } ([2])).
كان صوته يعلو وفجأة قال بهدوء:
(بالإيمان لن نكسب السلام فقط، بل المحبة والرحمة لأنه ما من عبدٍ يكون مع الله حقاً ويصبح ظالماً، فالإيمان يربي خشية الله في القلب، وهذا ما يحفظ الإنسان حتى من نفسه.
خشيةً لله وتعظيماً ومراقبةً له، وليس خوف الحدود وخوف القصاص والقوانين!
وعندها يتزكَّى الإنسان الداخلي، وتفنى رغبات النفس وجموحها، ويصبح الإنسان إنساناً ملائكياً رحمانياً يحب الجميع ويحنو على الجميع).
دخل الإخوان يحملون الشاي المعطر وبدأ الجميع بارتشافه مستمتعين بنكهته.
قال أحد الأساتذة متسائلاً:
ولكن لماذا عجز الإيمان الآن عن الإصلاح؟
وهزّ معظم أفراد الوفد رؤوسهم وكأنهم موافقون على رأيه.
هزَّ شيخنا رأسه مبتسماً وهو يشم الوردة بعمق قائلاً: (في الأصل جاء الإيمان لصناعة الإنسان الكامل، وإسعاده في كل شؤونه، وجعل الله هذا الإنسان عاقلاً سميعاً بصيراً ليفهم دوره على هذا الكوكب وينجح فيه، فيسعد ويُسعد، ولكن رجال الأديان جعلوا الدين لمصالحهم، فغابت أصالة الإيمان، وغابت تعاليم الله فيهم فعجزوا عن إيصالها للآخرين، وكما قيل: فاقد الشيء لا يعطيه لغيره.
فإذا لم يكن الإيمان راسخاً ومتمثلاً في سلوك رجل الدين، وإذا لم يكن النبي قدوته في كل أخلاقه وحكمته وسلوكه لن يصل إلى قلب محدّثه، وبالتالي لن يُحْدِثَ ذلك التغير.
لذلك لو صدق رجال الدّينين لعاد الإيمان قائداً للإنسان للسعادة والصلاح، ولعاد السلام إلى كل الشعوب، لأن دين الله جاء مسعداً لكل البشر في كل آن).
رفعت يدي متوسلة أن كفى، فهو متعب…
فقال أحد الضيوف:
لا ندري كيف فشلت كل تلك الحضارات في الخلاص مع أنها أثبتت جدارتها في الماضي؟
فأجاب شيخنا وهو يتنهد بقوة وينظر إليَّ مهدئاً: (يا ابني… آخر ما وصلت إليه الحضارة أنها تريد أن تحفر قبرها بمحفار علمها وثقافتها وتقدمها…
أيّ تقدم؟… تقدَّمت الآلة… صارت الدابة سيارة، ثم طيارة… كل شيء تقدم إلا روح الإنسان، لأنها بَعُدَت عن تعاليم الله.
كل شيء تقدم إلا روح الإنسان، لأنها بَعُدَت عن تعاليم الله
لم يتقدم الإنسان إنسانياً ولا إيمانياً، ولا منقذ سوى الإيمان… وخلاصة الإيمان أن نقود العالم كله إلى الحب، إلى الرحمة، وقدوتنا رسولنا الكريم عليه الصلاة والسلام حيث حدد الله عز وجل مهمته بقوله: { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ } ([3])).
قالت إحدى الزائرات بتوسل:
فعلاً نحن قلقون، فالعالم كله متناقضات… والحروب آتية؛ بل نحن في حرب دائمة.
سيدي حديثكم ملأنا بالسكينة والأمل، أنتم تملكون حلولاً حقيقية، فما الحل؟.
فقال شيخنا: (إذا أردنا يكون الحل… ولكن متى نريد؟ إذا علمنا ما نريد…
أما إذا جهلنا الواجب أو عرفناه وما أردنا أن نعمل به فستكون الكوارث من حيث نتوقع أو لا نتوقع).
ثم تنهَّد شيخنا قائلاً: (أكرر وأقول: لم يعرف الإنسان خطراً أعظم من الخطر الذي يعيشه إنسان عصرنا هذا، السلاح كان بسيطاً وليته بقي هكذا… فأي إنسان هذا الذي يقتل أخاه بالقنابل النووية والجرثومية والكيميائية…
الحلّ أن نهيء مؤسسة من عقلاء وحكماء ومخلصي الأديان، وتضع برنامجاً للعمل بتعاليم الله الواحد الأحد الأصيلة التي نزلت على كل أنبياء الله والتي لم يخالطها أي تبدل أو تغير والموجودة في القرآن الكريم، حيث لم يتغير منه حرف مذ أنزله الله الذي يقول: { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } ([4])… كل منا يحب أن يصحح مسيرته في الحياة حسب تعاليم الله).
رفع يديه مقرراً، وقال: (ثم تأتي مهمة الإعلام العظيمة… الإعلام.. ثم الإعلام.. ثم الإعلام.. ويجب أن يديره أناس معتدلون مخلصون مؤمنون حقاً).
تنفس بعمق، ونظر إلى كل واحد منهم بثبات وتابع: (إذا لم يكن في قلبك وجدان حقيقي وضمير حيّ نابع من روح تعاليم الله، فيحترم الإنسان كل الإنسان، ويحب الإنسان كل الإنسان، لا يمكن لكل أسلحة العدوان أن تحقق شيئاً سوى الدمار والخراب والضياع، ولا يمكن لكل وسائل الإعلام أن تحقق السلام والحب والإخاء والرحمة للجميع، وهذا هو جوهر الإيمان وغايته).
كل شيء تقدم إلا روح الإنسان، لأنها بَعُدَت عن تعاليم الله
احمر وجه شيخنا منفعلاً وقال بتهدج:
(العالم مهيأ للاحتراق ما لَمْ نَعُد إلى تعاليم الله، ونحن مسؤولون، وسنحاسب غداً أمام محكمة الله، لنعمل جميعاً في دائرة ما نستطيع، ولا حدود لقدرتنا إذا أردنا.
العقل إذا لم تسعفه قوة السماء يقع في أخطاء كثيرة كالحروب العالمية -الذين خططوا لها كانوا أصحاب عقول كبيرة- ولكن ماذا كانت النتيجة.. دمار للجميع.
الدين بأصالته لا يفرق بل يجمع، يجمع الإنسان بإنسانيته وروحانيته، القصة قصة الأنا ونحن).
الدين بأصالته لا يفرق بل يجمع
كان الجميع ينظرون باهتمام صامتين فقال بهدوء: (أنا متفائل، ولكن التفاؤل بلا عمل هو أماني، الشقاء والسعادة بيد الإنسان، ما يلزم إنسان هذا العصر حمام روحي إيماني لغسل الغبار العالق بإنسانيته ليعود ملائكياً، أوليس الأحرى بالإنسان أن يعمل ليجعل من الإنسان الجسد، الوحش في النفس، إنسان الروح والنفس.
العلو والتسامي تأباه النفوس الصغيرة وتعانده، وتفضل الانحطاط والهبوط في مصالحها المادية وشهواتها الجسدية، ولكن الإرادة والإيمان دواء لكل داء،.. نحن مسؤولون عن تغيير ما بإمكاننا، ورفض الإنسان لتعاليم الله دليل على ضعف عقله وطفولة إرادته وتغلب شهواته.
رفض الإنسان لتعاليم الله دليل على ضعف عقله وطفولة إرادته وتغلب شهواته
أنتم مسؤولون بين يدي الله عن كل ما تسمعونه لتنقلوه للآخرين).
أشار بيده متعباً وقد أنهى حديثه:
(والمجنون في قاموس رسول الله صلى الله عليه وسلم: «المجنون من يعصي الله»([5]) المجنون من يعصي الله…). قالها وكأنه يختم حديثه.
شكروه كثيراً، ثم ودّعوه بكل حب واحترام وتمنّوا له عمراً مديداً ليحقق أمانيه وأماني الصادقين أمثاله..
وبعدها ظل عدة أيام متعباً.
وفي صباح الثامن عشر من آب كان متعباً جداً وأغمي عليه مرتين، ناديته فزعة: شيخنا.. قال وهو يختلج:
(المهم الإسلام… المهم استمرارية الدعوة).
جاء الدكتور “أويس” وبعد مشاورات مع الأطباء، نقل إلى مشفى الشامي إلى العناية المشددة، حاولوا وضع بطارية مؤقتة لمساعدة عمل القلب… وذهبوا إلى غرفة العمليات… وبعد ساعتين تقريباً عاد متعباً مرهقاً.
قال الطبيب بأسف وحزن: لقد أتعبناه كثيراً وتعبنا كثيراً حتى أوصلنا سلكاً رفيعاً من الحالب إلى قلب شيخنا، وكان الأمر في غاية الصعوبة.
لم يكد يصل إلى السرير حتى تيمم بسرعة وجلس يصلي.
قال الدكتور “أويس”: أرجوك لا تتحرك كثيراً.
لم يبال شيخنا… ركع طويلاً وسجد طويلاً بالرغم من وجود علبة حديدية بطول اثنين وعشرين سنتمتراً وعرض عشرة سنتمترات مثبتة على جانب الحالب!!
أنهى صلاته بهدوء شاكراً ذاكراً لله.
قال طبيبه: وقد دمعت عيناه.
سبحان الله… شيخنا يعلمنا الهمة والإرادة والصبر على المكاره.
بعد ثلاثة أيام ثبتوا له بطارية دائمة لتساعد قلبه المتعب ونصحوه بالنقاهة لمدة شهرين على الأقل…
ولكن هل تستطيع النفوس العظيمة أن ترتاح؟؟
كان يدعو إلى الله حتى في المستشفى ويقرأ ويكتب ولا يدع فرصة يرضي الله بها وينشر دينه إلا واغتنمها…
كان يود السفر إلى أمريكا تلبية لدعوة الدكتور شولر رئيس الكنيسة الكرستالية، ولكن يبدو أن الله أراد له أمراً آخر، ولم ينه فترة النقاهة كلها حتى عاود نشاطه كله ومحاضراته ولقاءاته بالوفود، وبذلك سجل لنا أروع مثال على عزيمة وإصرار لمواصلة جهاده في الدعوة إلى الله… وعندما كنت أرجوه أن يرتاح قليلاً ليستمر طويلاً كان يكرر:
(يا بنتي لا سن للتقاعد في الدعوة إلى الله.
لا سن للتقاعد في الدعوة إلى الله
أنا أدعو الله أن أموت وأنا في جهاد الدعوة على كرسي الدرس في الجامع).
رحمه الله وجزاه الله عنا كل خير… وجعلنا على نهجه وبهمته… اللهم آمين. في آب 2000
([1]) سنن أبي داود: 5293، عن أبي هريرة رضي الله عنه.
([2]) سورة الملك، الآية: (14).