على كل واحد منا أن يتجند لإيصال حقيقة هذا الإسلام ليعم الأمن والرحمة
أنا متفائل، الإسلام قادم… تهيؤوا لصنع الإسلام، الناس بخير
ما لا نتعلمه من الحكمة قد نتعلمه من المصائب والمشاكل التي ستحلُّ بنا من كل جانب
الرَّجُل الرجل.. هو الذي يؤثِّر في زمانه ولا يتأثَّر بزمانه
الله لا يدلُّنا على شيء نخسرُ فيه، أمَّا النفسُ والهوى فلن توصلنا إلاَّ للخسارة الأكيدة
لحظات لا تنسى و لن تنسى
لحظات لا تنسى و لن تنسى
لن أنسى ولا أنسى
وجه شيخنا الغالي المستسلم المطمئن وهو ينْزِف الدم من معدته المرة تلو المرة، يحاول أن يهدئ من روعنا، وأن يصرف عنا الخوف، لئلا يدعنا نتهاوى خوفاً عليه ونحن نرى الدم يسيل حتى غطى الفراش.
كنت أحسّ بقواي تخور، ولأول مرة في حياتي معه شعرت بخوف حقيقي، وبأن الأرض تهتز من تحت قدمي وتهز كياني.
صرخت وأنا أغص بالبكاء: سيدنا أرجوك!
كنت أمسح الدم المرة تلو المرة، وكان مستسلماً بوداعة وهدوء وكأن الأمر لا يعنيه.
وجاءني صوته من بعيد… من الأعماق:
(هل عندك كتاب منتخب كنـز العمال؟).
كنت أبكي في داخلي وأرجوه أن يرتاح، لم أستطع حتى أن أومئ له برأسي.
ثم قال للطبيب أويس وقد رآه يحاول أن يتماسك والدموع في عينيه:
(دكتور هل عندك منتخب كنـز العمال؟).
ومن ثم انتقل إلى ابنه صلاح وقال:
(صلاح هل عندك منتخب كنـز العمال؟).
أجابه صلاح: نعم سيدنا عندي.
كان يريد حتى في لحظات الألم أن يصرفنا عن هذا الألم إلى الإيمان والعلم والدعوة إلى الله.
وعندما تكرر النّزف قلت باكية:
شيخنا أرجوك لا تتركني وحدي.
وعندها التفت إلي ليقول:
(لا !… أنا أريدك صدقة جارية في صحيفتي؛ لا أريدك أن تذهبي معي، المهم استمرار الدعوة، المهم الإسلام).
ثم نقلوه إلى المستشفى وسط ذهولنا ومحاولاته كسر الخوف الذي لفَّني والبكاء الذي خنقني.
وهناك في المستشفى كان يلح على العودة إلى المزرعة، كان يسأل الأطباء والمرافقين عني باستمرار، ويطلب أن أبقى بجانبه، وكم مرة قال:
(الله يرضى عليك، أنا راضٍ عنك؛ أنا راضٍ عنك؛ المهم هل أنت راضية؟).
وكان يقول دائماً لي:
(لا تخافي لن أتركك، سأظل معك).
كان في العناية المشدَّدة ولم يكن يئن أبداً، وكان يحاول ألا يجعلنا نحس بألمه، بل يتحدث عن الإسلام، وأننا مقصرون، وأن الوقت ضاق، وأنه خجل من ربه لتقصيره في التبليغ.
كان يتحدث عن عودة الإسلام؛ الإسلام بروحه وحقيقته، وأن هذا القرن هو قرن الإسلام، قرن العودة إلى الله، قرن السلام والرحمة والإخاء للعالم كله.
كان يتحدث عن آماله؛ يريد أن يبني مستشفى للأيتام والفقراء، ويريد أن يُحَدِّث مناهج التربية في المدارس الشرعية، وأن يجعل فيه ساعات للفكر وساعات للذكر.
لا أدري ما الذي كنت أحس به، كأن شيئاً ثقيلاً يكبلني، فلا أدري ماذا أقول ولا ماذا أفعل، أنا في ذهول مأخوذة مستسلمة بدون أي حركة أو اعتراض.
لا أدري كيف كنت أمشي، وكيف أصعد الدرج، لم أكن أتكلم مع من حولي، لم أكن أرى أحداً رغم الازدحام والإزعاج، كلمات قليلة كانت تخرج بصعوبة:
لا أريد، نعم، لا أدري، لا يهم، الحمد لله…
وبعد العملية، وفي يوم الاثنين، تمشى مع الأطباء في الغرفة بصعوبة، وكنت أشفق عليه أن يتحرك ولكنه لم يكن ينبس بكلمة تعبر عن ألمه أو تعبه رغم وضوح ذلك عليه؛ كان قلبي يئن بدلاً عنه.
رغم كل تعبه كان يقول بضعف:
(أنا متفائل، الإسلام قادم… تهيؤوا لصنع الإسلام، الناس بخير… أنتم مؤتمنون، أنتم مؤتمنون.. علينا تبليغ الرسالة وهذه الأمانة… يا ليت لي جسداً قوياً لأعمل في خدمة دين الله).
أنا متفائل، الإسلام قادم… تهيؤوا لصنع الإسلام، الناس بخير
ثم جلس وهو يلهث، وناداني لأجلس بقربه وكأنه يريد أن يُسرّ لي حديثاً، نظر إلي وحاول أن يبتسم حتى أطمئن عليه، كنت أغالب دموعي ولا أستطيع أن أنظر إليه، كنت أتضرع إلى الله وأنادي: يا الله، يا الله.
وسمع أذان المغرب فقال لي: (هيا، وتزوَّدوا؛ غداً إن شاء الله في المزرعة).
قلت: إن شاء الله، إن شاء الله.
تابع: (لم نذهب إلى الجامع هذه الجمعة أليس كذلك؟ فاتنا مجلس الملائكة ورياض الجنة).
وصار يلوح بيديه المنتفختين من إبر “السيروم” تحسراً على فوات مجلس العلم.
طلب الوضوء من أبي الخير، وأبى إلا أن يسبغه حتى تبللت الملاءات.
ذهبت لأتوضأ فناداني يستعجلني، فأتيت إليه وأنا وجلة.
قال: (أسدلي الستائر وأغلقي الباب).
كنت أتحرك بصمت لا أعرف ما الذي حلّ بي.
طلب بإلحاح أن يتجه بسريره إلى القبلة مع ما يسببه ذلك من شد الأنابيب الموزعة في جسده والآلام المرافقة لذلك، اتجه تماماً إلى القبلة ووقفت بجانب سريره وبدأ يصلي صلاة المغرب وبصوت مسموع لي بدأ: (الله أكبر…).
ركع طويلاً…
وسجد طويلاً ورفع يديه: (الله أكبر).
أحسست بالأنابيب تؤلمه في رفعه وفي سجوده.
انتهت صلاة المغرب، ورجوته كثيراً ألا يرفع يديه حتى لا يشد الأنابيب ولكنه لم يبال.
ثم صليت معه السنة وأنا قلقة باكية، موزعة القلب بين صلاتي وخوفي عليه.
وأحسست أنه يحلق بعيداً بعيداً، وغطت وجهه هالة نورانية، كان يتحرك في النور ويركع في النور ويسجد في النور.
ذهلت وصرت أنظر إليه بطرف عيني ولا أفهم ما يحدث، نور ما رأت عيني مثله وكأن الشيخ ليس هنا أبداً، إنه مع ربه يناجيه، يتصل به، وأنا أحدق فيه لا أدري ما الذي يحدث، دموعي تنهمر وصوتي يختنق، وضباب يلفني ولا أدري ما يكون.
وصلى صلاة الأوابين ست ركعات، ولا أدري أنا كيف صليتها لأنني كنت أراه يرتفع وكأن المكان الموحش أصبح نوراً صرفاً وهو يحلق إلى أعلى، وصوته يرجع: (الله أكبر… سمع الله لمن حمده… الحمد لله رب العالمين). غبت معه وجلة، ضارعة، مندهشة، ذاهلة، لا أدري ماذا كانت مشاعري!.
حاول أحدهم الدخول فرفع صوته ناهياً إياه من الاقتراب، وبقينا أكثر من نصف ساعة نغرق في النور والتسبيحات الملائكية.
(الله أكبر… سمع الله لمن حمده… سبحان الله العظيم… الله أكبر).
وأحسست بالاتصال وبعين الله ترعاه وتهدهده… الله أكبر… ولفتني سكينة وكأننا معاً هناك هناك في الأفق البعيد… وحدنا مع الله.
وطالت الصلاة والنور ينسكب من وجهه ويديه، يا لله كم كانت يداه بيضاويتين منورتين… الله أكبر نشيد إلهي يردده بخشوع.
(السلام عليكم ورحمة الله… السلام عليكم ورحمة الله).
نظرت حولي لا أدري أين أنا ومن أنا، كان الجو ملائكياً رحمانياً.
بقي دقائق يدعو الله رافعاً يديه يتبتل، لا أرى السرير، ولا أرى سوى النور يغمرنا وكأننا في الأعالي هناك… في عالم آخر كله نور، عالم نوراني سماوي، وكنت أتحرك بلا وعي ولا إدراك وكأن شيئاً ما يحركني، لست أدري كنهه.
دخل الدكتور “أويس” قلقاً مدهشا فرحب به شيخنا وأعدتُ له السرير كما كان وأنا كالمسحورة المأخوذة.
بعد دقائق جاء وفد من قيادات الحركات الإسلامية الفلسطينية، رحب بهم شيخنا كثيراً ثم حدثهم قائلاً: على كل واحد منا أن يتجند لإيصال حقيقة هذا الإسلام ليعم الأمن والرحمة. يجب أن نفهم القرآن كلمة كلمة، وجملة جملة، حتى نحقق ما فيه.
على كل واحد منا أن يتجند لإيصال حقيقة هذا الإسلام ليعم الأمن والرحمة
ثم بشرهم بالنصر وقال لهم متفائلاً:
(أنتم ستقودون المعركة، وسيظهر الإسلام، وبالإسلام فقط سيعم السلام والأمان للجميع). ووصاهم بالاستمساك بالعروة الوثقى وبالدعوة إلى الله، وبالجهاد للوصول إلى العزة والكرامة، وقال:
(إذا عرف الإنسان تعاليم الله، فإنه لن يعرف حق الإنسان فحسب، بل وحق الحيوان وحق البيئة… ولا يصبح الإنسان إنساناً إلا إذا دخل مدرسة الله.. مدرسة الأنبياء.
سيظهر الإسلام، وبالإسلام فقط سيعم السلام والأمان للجميع
خريطة الله هي خريطة السعادة الدنيوية والأخروية… لا تيأسوا، الإسلام قادم وأنا متفائل).
خريطة الله هي خريطة السعادة الدنيوية والأخروية
وبشَّرهم وبشَّرهم.
فقال له أحد القيادات: ما شاء الله يا شيخنا، وأنت على فراش المرض تدعو إلى الله وإلى الإسلام، بارك الله فيك!.
خرجوا جميعاً متفائلين بما بشرهم به شيخنا، أما شيخنا فحمد الله كثيراً وصار يدندن:
(الحمد لله الحمد لله، الشكر لله؛ الإسلام يا ابنتي قادم… أنا متفائل المهم أن نخطط ونعمل للهدف الذي أوجدنا الله من أجله وفي هذا سعادتنا الدنيوية والأخروية).
بعد لحظات من الهدوء أحس بألم في معدته، فحاولوا غسل معدته وإخراج ما فيها، فأحس بالتعب وقال: (أشعر كأن جسدي كله زجاج، وصار يرتجف).
وضعنا له عدة أغطية وأمسكت يده الباردة لأدفئها وأنا أختنق بالبكاء، فصار يردد: (لا تخافي، سأبقى معك، لن أتركك، الأهم هو الله، الأهم هو الله، كله خير… أمر المؤمن كله خير، إن أصابته سراء شكر، وإن أصابته ضراء صبر… لا تخافي لن يخذلك الله، أنا راضٍ عنك، الله يرضى عليك).
كنت أمسح العرق من جبينه بيدي وأنا أرتجف خوفاً عليه.
فجأة رأى الأطباء أن ضغطه قد انخفض كثيراً فطلبوا مني الخروج حتى يضعوا له جهاز الإنعاش، خرجت باكيةً لا أرى طريقي، ودخل شيخنا رحمه الله في غيبوبته الأخيرة، وأحسست وقتها أن الأمل قد ضاع، وكان ذلك مساء الاثنين.
وفي صباح الثلاثاء، وضع له الدكتور “أويس” مسجلة على أذنيه لسماع القرآن الكريم، كانت حركته بطيئة، ولكن النور كان يغمر وجهه ويديه.
لا أدري كم وقفت بجانبه والألم يعتصرني والذهول يلفني، كم ناديته، كم دعوت له، أصبحت الدموع التي كنت أقاومها تهزمني وتلاحقني حتى كدت أختنق.
حاولت الأخوات تهدئتي وهن يبكين، ولكني كنت في غيبوبة لا أفهم شيئاً.
صباح الأربعاء جاء الدكتور “معن المالكي” لفحص شيخنا، كان يرمقني وأنا أعض على شفتي وأقول يا الله، ثم يعود لفحصه، ولكنه كان يتعامل مع شيخنا بطريقة أيقنت من خلالها -رغم الآمال العريضة- بأن الله قد اختاره للرفيق الأعلى.
وما هي إلا ساعة حتى أخبرني الدكتور “أويس” بأنه يجب أن أرتاح في بيتي وأن هذا أفضل لي.
خرجت وقد أصبح قلبي فارغاً، والعبرات تنهمر من عيني كآلة فقدت محركها لا أدري إلى أين أذهب؟ وماذا أفعل؟
كان ابني وزوجته في انتظاري وكانت أنظارهما تحوطانني، كانا يبكيان وهما يخففان عني بأن الله سيشفيه ويعيده لنا، وأن الله لن يخذلنا.
بعد قليل من خروجي وقبل وصولي البيت، حلقت روح شيخنا إلى بارئها وقد أدى أكثر مما عليه وترك بصمته ووصاياه على كل من حوله وفي أعماق كل من اتصل به.
كما كان يقول بأن جسده قد تعب، ولكن روحه ما زالت شابة تريد العمل للإسلام، وكم تمنى جسداً آخر قوياً ليقوم بتبليغ الرسالة من جديد.
لقد نسج لنفسه جسداً جديداً من أعماله وأقواله ليتابع دعوته إلى الله وخدمته لدين الله وللإخوان وللعالم كله.
رحمك الله يا شيخنا، وجعلك في أعلى عليين مع الأنبياء والشهداء والصالحين وحَسُن أولئك رفيقاً.
اللهم كما مننت علينا برفقته في الدنيا، امنن علينا بصحبته في حياة البرزخ وفي الآخرة، وثبتنا على نهجه وفكره تحت لواء سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.
وصبرنا اللهم على ما قضيت، آمين آمين آمين.
التابع يقوده الآخرون إلى حيث يريدون
التابع يقوده الآخرون إلى حيث يريدون
في أوائل التسعينات ومن بداية زواجنا، كان شيخنا يشكو ألماً في صدره في عظم القص بعد تعرُّضه لبرد شديد في سيارة مكسورة النافذة أثناء مرافقته لوالده الشيخ أمين -رحمه الله- إلى بيروت.
ولكنَّ الألم كان يزداد أحياناً، فيُسبِّب حيرةً للأطباء الذين ارتأوا أخيراً أن يضعوا جهازاً ملاصقاً لقلبه موصولاً بقارئ لخطوط القلب لمعرفة مصدر ذلك الألم، وحتى يتأكدوا بأنَّ هذا الألم ليس ناشئاً عن ضعف في القلب أو عن قرحة هاجعة في معدته.
طلب الأطباء من شيخنا الرّاحة التامة، وعدم استقبال الضيوف.
وطلبوا مني مراقبة ذلك وتسجيل كل التغيرات.
لم يدم الأمر طويلاً في المزرعة، لأن كثيرين من أحباب الشيخ وإخوانه كانوا يريدون مقابلته، وكنتُ عندما أتدخل في الأمر تزدادُ مضايقة البعض لي، حتى وصل الأمر بأحدهم أن اتهمني بأنني أبعد الشيخ عنهم!. أو أحجزه لنفسي فقط، أو…الخ.
فما كان من الأطباء إلا أن طلبوا منه الذهاب إلى منزل أحد إخوانه خارج المدينة، علَّه يحظى ببعض الرَّاحة ويتسنى لي مراقبةُ قلبه عبر الجهاز لمعرفة سبب الألم.
مكثنا وحدنا والسعادة تغمرُ قلبي، وكنت أرعاه محاولةً تسليته بشتَّى الوسائل، حيثُ كان يفتقدُ دعوته وإخوانه، وكان ينظر إلي مبتسماً ويقول:
(يا لكِ من قنبُرة خلا لك الجـوُّ فبيضي واصْفري
ونقِّري ما شئت أن تنقري لا بُدَّ يوماً أن تُصادي فاحذري)
فأقول ضاحكة: هذا ما أراده الأطبَّاء!…
دامت إقامتنا أكثر من أسبوع.
كان هناك من يقوم على خدمتنا، وتأمين طلباتنا، ولم يستطع أحدٌ الوصول إلينا أو زيارتنا.. وأنا أسجل ساعة بساعة وقت مرور الألم أو ازدياده.
كنَّا نتمشَّى يومياً ونقرأ أو نكتب معاً.
والحمدُ لله فقد خفَّ الألم كثيراً ولم يعاوده.
وفي منتصف آخر ليلةٍ أحسستُ بيده تبحث عن علبة الدواء، فأوقعها على الأرض مُحدثة صوتاً، وتبعثر الدَّواء.
أضأتُ النور، فقال معتذراً:
(عفواً هل أيقظتك؟).
جلست بسرعة وقلت: أرجوك سيدنا عمَّا تبحث؟.. ماذا تريد؟..
قال وهو يتنفَّس بصعوبة ضاغطاً على مكان الألم: (هاتِ حبَّة “فاليوم”).
قفزتُ وأنا أبحث عن العُلبة، وأعطيتُه الحبَّة.
أعدتُ حبات الدواء إلى العلبة وأنا أسأله: ما الذي حدث؟!.. أرجوك ما بك يا حبيبي؟!..
قال: (الألم نفسه…).
أخذتُ بخاخ العطر، وصرتُ أرطِّب مكان الألم به.
جلس معتدلاً في السرير، وهو يضغط مكان الألم، وقال بتهدُّج: (لقد رأيت نفسي في اجتماع مع كبار المسؤولين، وكانت مناقشة حامية بيني وبين أحدهم.. قلت له: نحن لا نريد فلسفات لا يدري نتيجتها إلا الله.. نريد حلولاً سريعة، وواقعنا يفرض علينا أن نبدأ وننقذ بلادنا.. الكلُّ يخطط لفسادنا وإهلاكنا واستغلال ثرواتنا.. نحن نخسر الوقت، وليس في صالحنا أن نجرِّب هذا البرنامج أو ذاك المنهج.
نحن لدينا مُخطط من الله؛ نحن قومٌ أعزَّنا الله بالإسلام، ومهما نُرد القوة بغيره يذلنا الله، ماذا كانوا؟!.. وماذا صاروا بالإسلام؟!.).
نظرتُ إليه بدهشةٍ قائلة: سيدنا أرجوك..!.
ثم تابع: (ذكرتُ له أننا الآن كطاحون الرَّحى تدور ليلاً ونهاراً، ولكن لا تتقدَّم شبراً.. لقد خطط الله لنا، ويجبُ أن نبقى ضمن هذا المخطط الإلهي.
التابع يقوده الآخرون إلى حيث يريدون، والتقليد إبطالٌ للعقل.. ألا يجب أخيراً أن نُبعث من قبور غفلاتنا؟.. من قبور جهالاتنا…! من قيود تقليدنا للآخرين..! ألا يجب أن نتحرر من تقزيم شخصيتنا..!).
كان يضغط على مكان الألم ولكنهَّ تابع: (الله لا يدلُّنا على شيء نخسرُ فيه، أمَّا النفسُ والهوى والأنانية وتحنيط العقل فلن توصلنا إلاَّ للخسارة الأكيدة).
الله لا يدلُّنا على شيء نخسرُ فيه، أمَّا النفسُ والهوى فلن توصلنا إلاَّ للخسارة الأكيدة
كنت أنظر إليه بدهشةٍ وحُزن وهمستُ له: حبيبي لقد تحمَّلتُ اتهاماتٍ لا يعلمُها إلا الله، لأُجَنِّبك الضيوف، ولأخفف عنك إرهاق الاجتماع إليهم حتى ترتاح، فكيف لي أن أُبعدَ عنك ضيوف الأحلام؟!..
ألا ترتاح قليلاً؟!.. والله حيَّرتني!.. ماذا أقول للطبيب؟!..
مسح على رأسي بودٍّ وقال: (يا بنتي؛ لا دواء لقلبي سوى نجاح الإسلام، وعودتنا إليه، وقيامنا بالدعوة ليلاً ونهاراً).
نظرتُ إليه حيرى قائلة: والآن ماذا نفعل؟.
أغمض عينيه، وهو يتذكر الجلسة والحديث الذي دار..، فسألتُهُ بحنان: هل أحضر لك شيئاً؟… ثم قمتُ وأعطيته ملعقة عسل يضعها تحت لسانه.
وصرتُ أضعُ له كمَّادات باردة على مكان الألم فخفَّ قليلاً، وربَّتَ على كتفي قائلاً: (الله يرضى عليك، لقد جئت سداداً من عوز، لقد أرسلك الله لي في الوقت المناسب لتخفِّفي عنّي، رضي الله عليك وعلى والديك وعلى الشيخ رمضان).
سألته: هل نتمشَّى قليلاً…؟ لأنَّ هذا كان يُخفف الألم أيضاً.
كان الهواء منعشاً…، قمنا إلى الشُّرفة، تمشينا وهو يتابع حديثه: (يا بنتي؛ الرَّجُل الرجل..، هو الذي يؤثِّر في زمانه ولا يتأثَّر بزمانه.. ما لا نتعلمه من الحكمة قد نتعلمه من المصائب والمشاكل التي ستحلُّ بنا من كل جانب، ولكن بعد فوات الأوان!…
ما لا نتعلمه من الحكمة قد نتعلمه من المصائب والمشاكل التي ستحلُّ بنا من كل جانب
الرَّجُل الرجل..، هو الذي يؤثِّر في زمانه ولا يتأثَّر بزمانه
يا بنتي طريق الورد أوله الشوك، ولكنَّ المجد في آخره…).
فصِرتُ أردِّدُ: الله يحميك بحِماه، يا سيدنا صحتك الآن هي الأهمّ… أنت رجل الإسلام، فإذا ذهب رجاله ضاع، لا بُدَّ أن تحرص على صحتك…
تابع وكأنَّه لم يسمعني: (الطفل يضع نفسه في الخطر لأنه جاهل ولأنه يستعمل حاسَّة واحدة حتى يفهم الأمور.
أما الرجل إذا كان عقله كبيراً، فيستعمل كل حواسه وعقله وبالعلم والاستقراء والدراسة يكتشف حقيقة الأمور ويتدبر نتائجها.
صلى الله على سيدنا محمد: «إذا أردتَ أمراً فتدبَّر عاقبته»([1]).
للأسف المسلمون الآن رجال الأجساد أطفال العقول.. بالإسلام والإيمان يصبح الطفل رجلاً فيعرف الحقائق ويتفهَّم برنامج الله الذي يوصلنا إلى النجاح يقيناً.. ولكنْ لا بُدَّ من المعلم المربي الذي يعلِّم الإسلام الحقيقي بحاله وعمله وقالِهِ وأخلاقِهِ).
جلسنا قليلاً…، كان الجوُّ رائعاً والقمرُ بدراً، صارَ يتنفس بقوّة وقال: (الحمد لله ذهب الألم).
نظرَ إلى السَّماء وقال: (ما شاء الله.. ما شاء الله..، البدر كامل).
فقلتُ لهُ مما علمني إيّاه:
بدْري أرقُّ معالماً والفرقُ مثلُ الصُّبح ظاهرُ
ضحك مسروراً وقال:
(الله يرضى عليك وعلى فادي)… كان إذا سُرَّ مني يدعو لابني “فادي” حتى يُفرِحَني.
سُرِرْتُ حقاً وقلتُ: ما أروعَكَ وألطفك!…
أنا أغبط نفسي عليك وعلى لطفك وحنانك.
فقال: (يا بنتي قانون الله: هل جزاء الإحسان إلا الإحسان؟!. ونبينا r يقول: «من أسدى إليكم معروفاً فكافئوه، فإن لم تستطيعوا فاذكروه، فمَنْ ذكره فقد شكره ومن كتمه فقد كفره»([2]).
يا بنتي أفلا أكون عبداً شكوراً).
ردَّدت: الحمدُ لله.. الحمدُ لله…، ثم تمشَّينا إلى الغرفة وسُرعان ما ذهب في نوم عميق براحةٍ وهدوء.
صيف 1994
([1]) حديث عبد الله بن المسور الهاشمي: أخرجه ابن المبارك (1/14 رقم 41)، وهناد (1/301 رقم 531).
([2]) أخرجه أبو داود والنسائي من حديث ابن عمر بإسناد صحيح، بلفظ: «من صنع…».