سلاح اللطف

الشيخ أحمد كفتارو
سلاح اللطف

سلاح اللطف

الشيخ أحمد كفتاروكان هناك كلبة شرسة تلازم الجوار، وكانت تتعرض للإخوان حتى إن الكثيرين قد نالهم الأذى من عضاتها، وكانوا يخشون عليَّ منها.

كنا نتمشّى أنا وشيخنا مرةً وكان الصباح ربيعياً والجو هادئٌ وجميل، فاتجهنا إلى الطريق الترابي الداخلي.

كنت أحب هذا الطريق، فالأشجار ملتفة والعشب في كل مكان، والشعور بالانفراد يريح النفس ويفتح آفاق الحديث مع شيخنا.

كان المنظر رائعاً فجلسنا على الكرسي وبدأت أسمع حديثه بشغف واهتمام، فدائماً توجد أفكار جديدة ومتنوعة، وكنت أحس وأستشعر خصوصية العلوم التي يُنعم بها علي، لقد كان مرحاً يصب العلم في قالب مرح بسيط ويعيد الآيات والأشعار كثيراً ليحفظني إياها باسماً صبوراً.

فجأة رأيت تلك الكلبة تتجه نحونا، ورأيت الإخوان الثلاثة كل واحد منهم يحاول أن يبعدها عنا وينبهنا إلى خطرها، ولكن شيخنا لم يبال.

قلت له: إن الإخوان قد جربوا أسنانها عدة مرات، وإنهم خائفون علينا، فضحك وناداها: تعالي.

فجاءت وقد نكست رأسها إلى الأرض متذللة له، وصلت إلى قدميه ونظرت إليه وهي تهمهم فمرر عليها عكازه وهو يرحب بها: (أهلين أهلين).

حاول الإخوان التلويح لها بالابتعاد، فرفع شيخنا يده لهم فابتعدوا، وتابع شيخنا حديثه معها: (كيفك؟).

فانقلبت على ظهرها وتمرغت بالتراب تحت قدميه وهي تهمهم بصوت لطيف وكأنها تحدثه، فصار يمرر عليها العصا بلطف ويلاعبها ويقول لها: (أهلين)، فاستكانت وهي تهز ذيلها بفرح.

بعد دقائق قال لها: (هيا مع السلامة).

فقامت وهي تمشي القهقرى والإخوان ينظرون بدهشة وتعجب ثم جاؤوا إلى شيخنا وقالوا له:

إنها شرسة جداً، وقد نالت من معظم الإخوان.

ضحك كثيراً ثم قال: (سبحان الله اللطيف، سبحان الله اللطيف، باللطف يا بني تكسب حتى قلب أعدائك وتقلب مزاجهم، وكما يقال: “الأسلحة ثلاث: اللطف، ثم اللطف، ثم اللطف”.

باللطف يا بني تكسب حتى قلب أعدائك

وهذا مع الإنسان والحيوان، ولم أجد مخلوقاً لا خير فيه، وكلّ واحد له مفتاح، المهم أن يطابق المفتاح القفل فتكسب المعركة وتنجح في استمالة القلوب والعقول.

لم أجد مخلوقاً لا خير فيه

ألم يقل الله عز وجل مخاطباً رسوله صلى الله عليه وسلم:

الدعوة أساسها اللطف، وأن تحب لأخيك ما تحب لنفسك

{ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ}([1]).

الدعوة أساسها اللطف، وأن تحب لأخيك ما تحب لنفسك).

([1]) سورة آل عمران، الآية: (159).

جوهر حقيقة الأديان

جوهر حقيقة الأديان

جوهر حقيقة الأديان

الشيخ أحمد كفتارولقاء مدير المتحف الثقافي البريطاني “كِنت كنتبري” خريف 1997 أسقف لندن ومرافقيهم مع شيخنا.

زارنا مدير المتحف الثقافي البريطاني فاستقبلهم شيخنا في غرفة الضيوف مبتسماً سعيداً مرحباً به أحرّ الترحيب قائلاً: أهلاً وسهلاً بأبناء سيدنا عيسى عليه السلام، أهلاً وسهلاً ومرحباً كررها أهلاً وهو ينظر إليهم مبتسماً قائلاً:

أغلى شيء على قلبي أن يجمع الله أبناء الدينين لأنه في الأصل والحقيقة الواجب الفعلي والواقعي أن يلتقي على أقل المستويات أبناء سيدنا المسيح وأبناء سيدنا محمد وأبناء سيدنا إبراهيم الخليل وشبك يديه متابعاً: وأوسع من ذلك أن يلتقي الإنسان مع أخيه الإنسان، ظهر الحبور على وجه الضيوف فتابع شيخنا وهو ينظر إلى الأستاذ فاروق مترجمه:

لأن الأديان كلها في حقيقتها ما قاله رسولنا الكريم «إن مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى داراً فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة من زاوية، فجعل الناس يطوفون به، ويعجبون له ويقولون هلا وضعت هذه اللبنة، قال: فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين»([1]).

نظر إليه الأسقف متأملاً فتابع شيخنا:

الإنسان المعاصر الآن دون مبالغة بعيد عن الإيمان أياً كان مسلماً أو مسيحياً، هناك إيمان الانتساب أحدنا ينتسب إلى سيدنا محمد، وآخر ينتسب إلى سيدنا المسيح كشخص ينتسب إلى جده الطبيب وما هو بطبيب.

حياة الإنسان، على هذا الكوكب. أصبحت في خطر محدق، سواء من تلوث البيئة، أو من زيادة السكان، أو من فقد السلطة العالمية التي كانت ترتجى من هيئة الأمم لتكف من سيطرة الأقوياء على الضعفاء.

قدم لنا أحد الشباب الشاي مع النعناع أخذ كل منا كوبه وتابع شيخنا حديثه: لو اجتمعوا لاستطاعوا فعل أي شيء حول هذه الأخطار المحدقة بإنسان عصرنا الحاضر.

رشف الجميع الشاي وهم يستمعون لحديثه فقال:

لقد التقيت بكثير من رجال الكنائس سواء في أمريكا أو أوربا وأهمها لقاء البابا الحالي الذي دعاني ثلاث مرات، وألقيت فيها محاضرة في الفاتيكان بطلب منه بعنوان “مستقبل الدينين الإسلامي والمسيحي في العصر الحاضر” بدت على الضيوف علامات الاستغراب والاهتمام تابع شيخنا:

والمحاضرة الثانية كانت في جامعة ميلانو بعنوان “التسامح الديني الإسلامي” ثم كان لي معه لقاء دام ستين دقيقة.

قال أحد الضيوف “أوو” متعجباً، وفي نهاية مجلسنا قال البابا لي:

أنا أقرأ القرآن كل يوم! قلت له: وأنا أقرأ الإنجيل والكتاب المقدس دائماً، ولي عليه ملاحظات لم أذكرها وكان جوابي مجملاً: أنا متفائل جداً في المستقبل القريب أن يكون هذا التلاقي الإسلامي المسيحي حقيقة وروحاً بننا من أجل إسعاد العالم وشعوبه وأرجو أن يكون لقاؤنا هذا لبنة في مخطط البناء، يجب أن نتعمق في الأمور المشتركة بيننا لنتقدم وأنا شخصياً متفائل في هذا اللقاء وأكثر من متفائل بل على يقين بأن ذلك سيكون خيراً للجميع، ويقع في قلبي أن لا يدخل القرن الواحد والعشرون إلا وسيلتقي أبناء الدينين الإسلامي والمسيحي من أجل مصلحة الإنسان ومن أجل جلاء الحقيقية.

رفع شيخنا صوته وتابع الأستاذ فاروق الترجمة قال شيخنا: أعتقد أننا نحن رجال الأديان مقصرون جداً وهذه العبارة قلتها بالحرف لسيادة البابا قلت له أولاً بطريق السؤال هل تدري يا سيادة البابا من خلق الشيوعية والإلحاد؟ سألني من؟ قلت له أنت! بعد ثوان من الصمت أكملت وأنا. ضحك شيخنا وتابع قائلاً:

أعتقد لو اصطلح رجال الدينين لما كان هناك نزاع، إننا نظلم الإسلام كمسلمين بانتسابنا إليه، وأعتقد أن المسيحية أيضاً تُظلم عندما تنتسب الشعوب المسيحية إليها، لو أتى سيدنا المسيح عليه السلام وسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ورأونا ورأوا سلوكنا لا أدري كيف سيواجهوننا وكيف سيقابلوننا وماذا سيقولون لنا؟

إن الدينَين يحتاجان إلى إصلاح جريء، وإلى تجديد لأن مفهومهما تقدم في السن مثلي ومثل ضيفي الكريم فقدنا جمال الشباب –ضحك شيخنا رحمه الله- ثم تابع: فقدنا نشاط الشباب وقوة الشباب كما فقد الدينان نشاطهما وقوتهما في عصرنا الحاضر، لذلك نحتاج لتجديد حقائقهما ومفهوم حقيقتهما، يقول الله في قرآننا العظيم { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ }([2]) ، وسيدنا المسيح لم يقل أقل من ذلك بل قال “أن تحب قريبك كما تحب نفسك” فهل هذا ما يعمله المسيحيون والمسلمون في عصرنا الحاضر؟

هل يعمل رجال الدين على هذا المستوى، وإذا كانوا يعملون حقاً بتعاليم الله أين ثمرة أعمالهم؟

صمت شيخنا ثم تابع: لذلك يجب على كل من يملك الطاقة أن يخطط للقاءٍ دائمٍ لتحقيق هذه الأهداف التي يحملها الدينان السماويان من أجل تحقيق السلام والإخاء العالمي بين الإنسان وأخيه الإنسان، يقول رسولنا الكريم:

«إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مئة سنة من يجدد لها دينها» ([3]).

أعتقد أن فكرة التجديد هذه الآن بذرة يجب أن نسقيها بجهودنا لنحقق التجديد، والمجدد لا يشترط أن يكون شخصاً واحداً، وبدأ الآن فكر التجديد في العالمين الإسلامي والمسيحي لكن لا يزال ضمن دائرة محدودة ينبغي أن تتوسع -ردد مبتسماً أهلاً وسهلاً ومرحباً- ثم سأل (كِنت كنبتري): في كتابكم آية (أفلا يتدبرون القرآن) كيف يكون هذا التدبر، ومن يقوم به يا ترى؟

هل هم رجال الدين الذين يفسرونه؟

رد شيخنا باسماً:

الموضوع بسيط جداً يعني (أفلا يتفهمون حقيقته) لأن الله تعالى قد خاطب الوثنيين بها وكفار قريش ويخاطب الله بها كل البشر بأن يستعملوا عقولهم ويقرؤون معانيه وحقائقه بفهم ليحولوه من كلام إلى واقع عملي شاهد منظور ومسموع للإنسان فكلنا مقصرون جداً فالتدبر لنعمل بمقتضاه، يقول الله تعالى:

{ وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ }([4]).

(ينهون عن المنكر) الشر الظلم الطغيان (أولئك): من يفعل هذا هم المفلحون حقاً.

إذا تدبرنا هذه الآية يجب أن يكون ثمرتها القيام بالدعوة إلى الخير والنهي عن الشر، والتعاون على ما فيه الرحمة بالإنسان، وعدم قيامنا بهذا يدل على عدم تدبرنا وفهمنا الفهم الحقيقي لها.

سأل الضيف عن الآية { أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ }([5]).

هل الإسلام هو علاقة خاصة بين الإنسان وربه أم الإسلام كمؤسسة قائمة بكل قوانينها ومراسيمها العبادية السياسية؟

أجاب شيخنا مُرحباً: معنى الإسلام في الحقيقة كما هو متفق عليه الاستجابة والامتثال لكل أوامر الله تعالى فكل من يستجيب لأوامر الله تعالى كلها يكون أسلم إسلاماً كلياً يقول الله عز وجل في كتابه الكريم في سورة البقرة:{ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ }([6]).

من (نحن) من قال هذا يعقوب الذي هو إسرائيل { أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ}([7]).

أي: يشرح الله صدره (للاستجابة) لأوامر الله تعالى التي أتى بها الإسلام فأثمر ذلك نوراً في قلبه، لما سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن معنى شرح الله الصدر هل له من علامة فقال: الإنابة إلى دار الخلود، والتجافي عن دار الغرور، يعني ألا يكون الإنسان عبداً لجسده عبداً لشهواته، والاستعداد للموت قبل أن يأتي الاستعداد والتهيؤ والزوادة لسفرة السماء فالإسلام كما يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «ليس الإيمان بالتمنِّي ولا بالتحلِّي ولكن هو ما وقر في القلب وصدقه العمل»([8]).

شكر الضيوف شيخنا ثم قدم لهم هدية كتابه (The way of Truth) قائلاً: هذه محاضرات ألقيتها في مؤتمرات عالمية في بلدان مختلفة من أوربا وأمريكا …

انصرف الضيوف وجلس شيخنا سعيداً بأداء الأمانة وقال: يدرسون القرآن ويريدون أن يفهموا، يا حسرة على المسلمين يقرؤون ولا يفهمون ولا يريدون أن يفهموا.

([1]) صحيح البخاري: 3535، كتاب المناقب: باب خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم.

([2]) سورة الأنبياء، الآية: (107).

([3]) سنن أبي داود: 4291/كتاب الملاحم باب: ما يذكر في قرن المئة.

([4]) سورة آل عمران، الآية: (104).

([5]) سورة الزمر، الآية: (22).

([6]) سورة البقرة، الآية: (133).

([7]) سورة الزمر، الآية: (22).

([8]) الجامع الصغير وزيادته للسيوطي ص348.

إنما هو الهوى … إنما هي الأنا

الشيخ أحمد كفتارو
إنما هو الهوى إنما هي الأنا

إنما هو الهوى … إنما هي الأنا

الشيخ أحمد كفتاروكان الجو ربيعياً جميلاً، والشمس دافئة، والزهور قد أطلت برؤوسها وشذى عبيرها يملأ المكان. كنا نتمشى بسعادة وقد أمسكت يده الطرية. دخلنا الطريق الترابي وقلما يصل إلينا أحد في ذلك الطريق، ولكن بعد جلوسنا بدقائق جاء أخ كريم، وبدأ حديثاً وصل إليه من بعض الأشخاص. حاول شيخنا تهدئته وتذكيره بقوله تبارك وتعالى:{إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا } ([1]). ولكن الأخ أكد الحديث وحاول إثارة الموضوع ثانية وكأنه لم يسمع نصيحة شيخنا. عندها قال له شيخنا بضيق: (حدث كذا، أو سمعت كذا، وكأنه وحي مُنْزَل بدون أية أدلة أو حجج وكأنك الصخر يردد الصدى!. أنت صخر؟ أنت جماد؟ أنت مُحاسَب! هل أنت غافل؟! تعيد القصة كالببغاء! ألا تفكر في حقيقة الأمر، أين دليلك على ما تقول؟ يا بني لو كان ما تقوله قرأته في كتاب فيجب تنقيحه والتأكد من صدق ذلك الحديث. الكتاب هو إنسان له وعليه وليس كل ما تقرؤه صحيح، هذا يؤدي لانحلال المجتمع وفقد الأخلاق. وكما يقول الشاعر: وإذا أُصيب القوم في أخلاقهم      فأقـم عليهم مأتماً وعويلاً) ثم تابع بحدة: (تظن فلاناً كذا فتصدق ظنك هل يعقل هذا؟ الظن ترجيح أحد الأمرين على الآخر بغير دليل). حاول الأخ أن يتكلم ولكن تابع شيخنا بحدة: (اليقين هو العلم من خلال أدلة قاطعة وبراهين، يا بني امشِ وراء العلم ولا تمش وراء الهوى ووراء الشك… عندما تسمع كلاماً من حاسد أو عدو فإن كنت صادقاً فانصحه سراً وأصلح أمره، أما أن تتكلم عليه وتفضحه، ثم تقول أنت مسلم!!!

يا بني امشِ وراء العلم ولا تمش وراء الهوى ووراء الشك

يا بني لنعد إلى إسلامنا وإلا فنحن الخاسرون أولاً، لن تستقيم الأمور لوحدها، الاتهام سهل ولكن هناك مسؤولية أمام الله. يقول الله عزَّ وجل: { وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا }([2]). جعلَ اللهُ عزَّ وجلَّ الإنسانَ رقيباً على سمعه وبصره وقلبه فلا يسمع ما يسيء إليه، ولا يتكلّم بما يظلم به نفسه أولاً، وإذا عملنا بهذه الآية هل ننجح أم نفشل؟… وصدق الله العظيم: { مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ }([3]). هل إسلامنا صحيح؟ هل نستطيع بدون تلك الأخلاق وهذه الآيات أن ندخل الجنة أو أن ننجو من الحساب؟). غادرنا الأخ منفعلاً محبطاً لأنه فشل في استفزاز الشيخ على إنسان معين، وكان شيخنا منفعلاً أيضاً وصار يردد: (لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، سبحان الله، سبحان الله). ارتبكت قليلاً فالموضوع لا يعنيني ولكني تضايقت لأجله، حاولت تهدئته وتخفيف الأمر فقلت له: سبحان الله كلٌّ له وجهة نظر. فقال بقوة وحزم: (إنما هو الهوى، إنما هي الأنا، حتى لو أيقن أنه الباطل لن يغير فكرته. لا سواء… الأنا في كفة والحقيقة في كفة فسترجح الأنا ولن يرضى بالحق أبداً… يقول الله عز وجل: { أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} ([4])). عدنا بصمت، وكنت أردد في قلبي: حقاً إنما هو الهوى، إنما هي الأنا، وكما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله»([5]). لقد تبدت له الحقيقة، وكم يتصور الإنسان أنه يناقش أو يحاور بأمانة ولكن الحقيقة شيء آخر تبزغ من القلب أولاً ثم تنطلق إلى اللسان، ولكن كما يقول شيخنا: أي قلب؟ إنه ليس أي قلب!. ([1]) سورة الحجرات، الآية: (6). ([2]) سورة الإسراء، الآية: (36). ([3]) سورة فصلت، الآية: (46). ([4]) سورة الجاثية، الآية: (23). ([5]) سنن الترمذي، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.

ستصفق لنا ملائكة الأرض و ملائكة السماء

تصفق لنا ملائكة الأرض وملائكة السماء

ستصفق لنا ملائكة الأرض و ملائكة السماء

الشيخ أحمد كفتارولقاء مع وفد كنسي من كندا 1998

دخل شيخنا رحمه الله الصالون بينما كان الوفد الكنسي الكندي بانتظاره، فقام الجميع احتراماً وسلم عليهم ورحب بهم قائلاً:

أهلاً بكم في بلدنا وأنا كداعٍ للإسلام أدعو الله ولا أزال وإلى أن ألقى الله إلى لقاء الأديان والتآخي بين المسيحيين والمسلمين كخطوة أولى، وألقيت في ذلك محاضرات كثيرة في أوربا وأمريكا ثم في اليابان وفي الفاتيكان مع البابا الحالي وفي حديث معه استمر ساعة كاملة كان آخر كلمة انتهى بها المجلس أنه قال لي: “أنا أقرأ القرآن كل يوم” –دهش الضيوف- فتابع شيخنا: في رأيي أن سبب بعدنا عن بعضنا في العقيدة، كمثل الأخوين افترقا عن بعضهما مدة طويلة وفتش أحدهما عن الآخر أكثر من عشرين سنة وبينما كان أحدهما في الصحراء رأى نقطة سوداء من بعيد فظنه وحشاً أو طائراً ولكن عندما اقترب منه وجده إنساناً بل هو أخوه الذي يبحث عنه وتعرفا على بعضهما وتعانقا وبكيا وانتهى الفراق، فالنبي الكريم قال: «الإنسان أخو الإنسان أحب أم كره»([1]) وقال: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه»([2]).

ولم يكن خطاب المسيح أقل من ذلك حيث قال: “أن تحب قريبك كنفسك” لذلك واجبنا جميعاً أن نعمل وبكل الطاقات وبكل السرعة الممكنة على التعاون الإسلامي المسيحي بشجاعة الأبطال، ووقفة المجددين سيما في عصرنا، عصر حرية الفكر والمعتقد وعصر الإعلام المفتوح، ولا يحتاج الأمر إلى شجاعة وتضحية فحسب، بل يحتاج إلى إيمان وصدق في العزيمة، وأعتقد في أقل من سنة إذا استعملت وسائل الإعلام الحديثة سواء بالحوار أو بطريقة التعريف الصحيح للإسلام والمسيحية فستكون ثورة بيضاء وعالمية، وستصفق لنا ملائكة الأرض وملائكة السماء.

لقد عجزت هيئة الأمم وعصبة الأمم عن تحقيق سلام وأفضل ما تعمله أن تنفذ هدنة يبقى فيها الطرفان يتربصان بالعداوة لبعضهما.

وحتى مجلس الأمن أُبطل بصلاحية الفيتو إنها الأنانية الحاكمة، لا يغلب الأنا الظالمة إلا تعاليم الله الحقيقية.

رفع أحد البطاركة يده قائلاً: معظم سكان أمريكا مسيحيون بسبب الهجرة وهناك اعتناق لأديان أخرى هناك بوذيون وهندوس فكيف نتعامل مع هؤلاء؟

ابتسم شيخنا قائلاً: معاملة الإنسان للإنسان واحدة، لما فتح المسلمون بلاد فارس كان فيها مجوس فقال المسلمون: سنّوا فيا سنّة أهل الكتاب كمواطنين.

وعندما تعرفوا على الإيمان الحقيقي من واقع المسلمين تخلوا عن عباداتهم إلى عبادة الله الواحد الأحد.

وأرجو أن نتعرف على الإيمان الحقيقي من منابعه الأصلية وكما نزل من السماء.

([1]) إشارة إلى قوله صلى الله عليه وسلم: «المسلم أخو المسلم…» متفق عليه.

([2]) متفق عليه، عن أنس رضي الله عنه.

لا تدعو الأوهام تغلبكم

الشيخ أحمد كفتارو
لا تدعو الأوهام تغلبكم

لا تدعو الأوهام تغلبكم

الشيخ أحمد كفتاروجاءت إلينا أخت داعية تزوجت منذ سنتين، وكنت أسمع دوماً عن عدم توفيقها بهذا الزواج.

حدثتني كثيراً عن شكوكها وعدم تفرغ زوجها لها، وأنها لم تظن أن الحياة الزوجية هكذا؛ خاصةً مع داعٍ إلى الله!.

نصحتها كثيراً بحسن التبعل والصبر، وكثيراً ما كان شيخنا يوكل لي هذه الأمور ويقول ضاحكاً:

(أنت قادرة على إعادة المياه إلى مجاريها وتتقنين بث الرّوح في الحياة الزوجية).

أصرت الأخت على رؤية الشيخ لعله يدلها على حلٍّ لمشكلتها فترتاح.

دخلت الغرفة وسلمت عليه وأخبرته قصتها وشكوكها بأنه ربما قد عَمِلَ لها أحدٌ ما “سحراً” فغيّب عن بيتها السعادة، أو ربما يكون حسداً من بعض الأشخاص قد أفسد عليها حياتها.

ضحك شيخنا ثم نظر إليها جاداً وقال:

(هذا كله وهم، لا يجب أن نعلّق فشلنا على أمور وهمية، الوهم يغلب العلم إذا أيقنت وصدقت به.

يا بنتي السحر غير حقيقي، والسحر لا يغير من طبيعة الإنسان، والمؤمن لا يؤثر عليه شيء نعم هناك حسد، ولكن ليست كل مشكلة نعزوها للحسد فنخاف الآخرين ونتوقف عن طموحاتنا لأن هناك من يحسدنا.

يا بنتي إذا اعتقدت أن هناك قدرة فوق قدرة الله فهذا نوع من الشرك.

نحن يا بنتي في عصر العلم والتعلم فلا تدعوا الأوهام تغلبكم، توقفكم عن متابعة أعمالكم، أو تتعسكم، ولا تركنوا إلى خيالات وأوهام تبنون عليها فتمزّق حياتكم الأسرية ثم تنسيكم غاية حياتكم الحقيقية في هذه الدنيا، نحن ما خُلِقنا إلا لإيصال الإيمان لكل من حولنا.

إذا نَقَّبْنا في أنفسنا وسلوكنا وتصرفاتنا تجاه الزوج أو الزوجة سنكتشف أخطاءً كثيرةً، ويجب أن نكون صادقين في اكتشافها قبل فوات الأوان، وأن نحاول تصحيحها وتقويم حياتنا… لماذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الكلمة الطيبة صدقة»([1])؟ لأن لها تأثيراً كالسحر ولها بياناً يجلو كل عداوة وكل ضغينة… لماذا قال رسول الله r: «تبسمك في وجه أخيك صدقة»([2])؟. لأنها تقرّب القلوب، وتفرّق الشكوك…

لا تكونوا أغبياء جهلة، فالإسلام دين الكمال ودين العقل، والعقل مع الإيمان يقود دائماً إلى النجاح.

كم مرة قال الله تعالى: }أفلا تعقلون{ }أفلا تتفكرون{… أليست هذه دعوة لاستعمال العقل حتى نصبح عقلاء حكماء.

الحكمة يا بنتي هي العقل في قمته، والحكمة أن لا نفكر إلا صواباً، ولا نقول إلا صواباً، ولا نفعل إلا صواباً.

وتهدج صوته: (دائماً نرمي أخطاءنا وفشلنا على أشياء وهمية لا حقيقة لها، أين حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم «واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن يضرّوك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك.. واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك..»([3])؟.

أين: «احفظ الله يحفظك»([4])؟.

إذا حفظت أوامر الله وطبقتها حفظك الله.

أين دعاء الرسول: «ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن»([5])؟. ورسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يقول:

«لو أمرت أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها لعظم حقه عليها»([6])..  وذلك ليتوازن البيت بقائد واحد للحياة للوصول إلى بر الأمان والحب فلا يخرب البيت بالتشاحن والشكوك.

تركنا كل الحقائق الإيمانية وعدنا إلى جاهلية الجهل: سحر وشعوذة وحسد وكأن…).

صمت قليلاً ثم قال: (لا حول ولا قوة إلا بالله. على كلّ إذا كان زواجكم غير موفق فلجهل أحدكما أو كليكما بالإسلام!!

يا بنتي دليلنا في كل علاقة كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والله لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه»([7]).

سبحان الله…

ولو كنتم على تعاليم الله مثلاً، ومع ذلك لم يحدث وفاق بينكم فلكم عزاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: «الصابرة على سوء خلق زوجها، والصابر على سوء خلق زوجته، كالمتشحط بدمه في المعركة»).

أطرقت برأسها خجلاً ثم انحنت مودعة تراجعت بخطواتها إلى الباب وهي تبكي وشيخنا يدعو لها بالتوفيق والحكمة والسعادة.

([1]) رواه البخاري، عن أبي هريرة رضي الله عنه.

([2]) سنن الترمذي، عن أبي ذر رضي الله عنه.

([3]) سنن الترمذي، عن ابن عباس رضي الله عنه.

([4]) سنن الترمذي، عن ابن عباس رضي الله عنه.

([5]) سنن النسائي وأبو داود، عن عبد الحميد مولى بني هاشم رضي الله عنه.

([6]) سنن أبي داود، عن قيس بن سعد رضي الله عنه.

([7]) متفق عليه، عن أنس رضي الله عنه.

فلما أن علوت بعدت

الشيخ أحمد كفتارو
فلما أن علوت بعدت

فلما أن علوت بعدت

الشيخ أحمد كفتاروطال سهرُنا ولم نستطع النوم فقدْ كان سماحته تعباً ومُرهقاً.. ومع ذلك جلس يقرأ ويكتب، فقد جاء أحد المقرَّبين مساءً وأطلعَهُ على حقيقة شخص كان يثق به فدُهِش جداً وآلمه الخبر، مع أنَّه في الآونة الأخيرة كان يُحسُّ ذلك ولكن كان يأمل أن تتغيَّر الأحوال ويؤوب الرَّجُلُ إلى عقله.

أكَّد لي أنَّه حزين.. ليس لأن ذلك الشخص قد أخطأ في حق الشيخ، بل لأنَّهُ يخشى على هذا الأخ من عذاب الله، ويريد أن ينقذه من المساءلة يوم القيامة، وأنَّه يخافُ على إيمانِهِ وسيُحاولُ نُصحَهُ معذرةً إلى الله لعلَّه يَصحو من غفلتِهِ ويعودُ إلى رُشدِهِ ويُصلحُ سلوكَهُ.

رجاني كثيراً أن أذهب إلى غُرفةٍ أخرى لأنام وأرتاح، فيبدو أنه لن ينام الآن…

كان تارةً يقرأُ وتارةً يُطفئ النور لأجلي ويحاول أن ينام ومن ثم يقوم ويكتب أموراً يُخاطِبُ فيها ذلك الشخص.. يُقنعه بالعدول عن أعماله ويُردِّد: (لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم).

ثم أخذ يكتبُ أبياتاً من الشعر تقول:

(دعوتُ الله أن تسْمُو وتعلو    عُلـوَّ النجم في أفق السماء

فلمـا أنْ  علوتَ  بَعُدتَ عني    فكان إذن على نفسي دُعائي)

كنتُ أنظرُ إليه حائرةً…، فلم يكن بوسعي أن أتكلَّم أو أن أفعل شيئاً…

ولكن لم يُطاوعني قلبي أن أتركه وحيداً وهو على هذه الحالة فرجوتُهُ قائلةً: صدِّقني سأطمئنُّ وأرتاحُ أكثر إذا بقيتُ بجانبك، وإذا ذهبتُ لغرفةٍ أخرى سأظلُّ قلقةً، ولنْ أنامَ حتى أراكَ قد أطفأتَ النُّور.

وطمأنتُهُ أنِّي سأنام حالاً فأنا حقاً نَعِسَة، فليفعل ما بدا له وليُبقِ النُّور مُضاءً.

رجاني بأنّي سأكونُ غداً متعبة، ولن أستطيع أن أهتمَّ به، فتوسَّلتُ إليه: أرجوك.. أرجوك.. أبقني بجانبك، سأنام فوراً، ومن ثَمَّ نمتُ فعلاً باستغراق… انتبهتُ من نومي فزعةً على صوت انكسار الزُّجاج!..

تحسَّست الفراش فلم أجدهُ -وكان قد أطفأ النور-.. هرعتُ إلى الصالة فصاح: (انتبهي!!.. لا تدوسي. لقد انكسر الكأس).

نظرتُ إليه وقد انحنى على الأرض، سألته بخوف: بالله عليكَ ماذا تفعل؟ رأيتُهُ يرفعُ قطعَ الزُّجاج المكسور على الأرض… ركعتُ إلى جانبه فصارَ يُردِّدُ: (لا حول ولا قوة إلا بالله.. أيقظتك؟!.. لقد علقَ الرداء بكأس الماء فوقع وانكسر).

عضَضْتُ على شفتي حتى لا أبكي وقلتُ مُختنقةً: حسناً، وماذا تفعلُ الآن؟!…

رفَعْتُ بقيَّةَ القِطع المتناثرة ثم أمسكتُ بيدِه فقال: (خشيتُ أن تدوسي على الزُّجاج وتجرحي نفسَكِ).

اغرورقتْ عيناي بالدُّموع وعُدنا للغرفة.

نظرتُ إليه قائلةً: أيعقلُ هذا؟!.. نادني..!.

ربَّتَ على كتفي وقال: (يا بنتي: هل جزاء الإحسان إلا الإحسان؟.. كم تتعبي من أجلي، لا يمكن أن أترك قطع الزجاج تجرحك.. يا بنتي: البَرُّ من لا يؤذي الذَّر، فكيف أؤذي زوجتي وهي ترعاني؟!).

فقلتُ في نفسي: ما أرحَمَك!.. وما ألْطَفَكَ!..

صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم:

«خيركم، خيركم لأهله»([1]).

كم تفتقدُ الزوجات عطفَ وحنان أزواجهنَّ رغم أنهم مسلمون.. ليتهم يجعلونك قدوتهم بحكمتك وعطفكَ واهتمامك.

اللهمَّ اجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وورثته أسوةً لنا جميعاً..

اللهمَّ آمين.

صيف 1998

([1]) أخرجه الترمذي عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه.

هل هذه تعاليم موسى والمسيح عليهما السلام

هل هذه تعاليم موسى و المسيح عليهم السلام

هل هذه تعاليم موسى والمسيح عليهما السلام

الشيخ أحمد كفتارو مع البابافي يوم الجمعة وتحديداً في الغرفة المخصَّصة لي لحضور مجلس شيخنا في مسجد أبي النور.

زارتنا الأختُ الفرنسيَّة مُديرة صحيفةِ (Paris match) في أواخر التسعينات. ولفتَ انتباهُها انشغالي بكتابةِ المحاضرة، فقد كانتْ ترمقني أنا والموجوداتِ بنظراتها المتوالية، ولم يكنْ يفوتها ايماءاتي بأنْ يكُنَّ أكثرَ هُدوءاً.

كانت عيناها تدوران فيما حولها مُتأمِّلة حرمَ المسجد الذي مُلئ بجموع الرَّجال والشُبَّان والأطفال، رُغم انشغالها بتدوين ما تسمعُ عبر الترجمة.

وعندما انتهى الدَّرس، سلَّمت عليَّ ورجَتني أنْ تلتقي مع الشيخ.

في صباح يوم السَّبت تمشينا في المزرعة، ثُمَّ جلس شيخنا قليلاً ليستريح.. وسُرعان ما توالتْ حمائم المزرعة كعادتها لزيارتنا، فشرع الشيخُ يُطعمُها بتفاؤل وحُبور قائلاً: (مَنْ الَّذي لا يُحبُّ الخير؟.. مَنْ يرفض العطاء؟..).

فجأةً ابتعدت الحمائم مع وصول تلك الصحفيَّة ومُرافقها.

وها هي تطلُّ علينا بقامتها الطويلة وغطاء رأسِها الخفيف الذي يسْتُرُ شعرَها وقميصها الفضفاض وبنطالها الخاكي.

بدَتْ وقد طبع الزمان على وجهها وسلوكها شدَّةَ وقسوةَ الرجال.

حقّاً لقد دُهِشْتُ عند رؤيتها وقلتُ في نفسي: أفرنسيَّة من بلدِ الموضات ترتدي ثياباً عاديَّةً عمليَّة؟!.. لماذا لا تلبسُ ما صمَّموه لبناتنا من ثياب قصيرة ضيِّقَةٍ مزركشة تكادُ تُظهِرُ أكثر مما تخفي؟!.. لماذا لا تضعُ على وجْهِهَا شيئاً من الأصباغ التي لطَّخَتْ وشوَّهَت وجُوه فتياتنا الصَّغيرات والموظَّفات والمُذيعات.. وحتَّى العجائز؟!..

سلَّمتْ علينا وعيناها تنظرُ إلى شيخنا بثباتٍ متفحِّصةً المكانَ حولنا وكأنَّها تستنتجُ شيئاً ما..!

رحَّب بها شيخنا باسماً، فبادرته قائلةً: “حضرتُ البارحة محاضرتكم واستغربت ازدحامَ المكان على رحبه بالشَّباب والشَّابات!..”.

ابتسم شيخنا وهزَّ رأسَهُ.. ثم تابعَتْ: “ما أثار دهشتي صراحةً جدِّيَّة زوجتكم والتزامها في حضور الدَّرس، وكتابتها للأفكار المطروحة فيه، مما شدَّني للقائكم شخصيّاً.

فالزوجة آخر من يهتمُّ ويقتنع بحديث الزَّوج ومقامِه، ولو كان رجل دين!…”.

ضحك شيخنا طويلاً ونظر إليَّ بودٍّ وحنان، ثُمَّ قال: (من نعمة الله عليَّ وعليها أن جاءتْ مُريدةً -تلميذة- وحفظها الله فبقيت مُريدة).

نظرتُ إليها وقُلتُ: ولأن حقيقة الشيخ واحدةً لم تتغيَّر، بل إنَّ كمالَهُ ممتدٌّ إلى حياتِهِ الخاصَّة كما في حياتِهِ الدَّعوية.

وتابعتُ: بصراحة لقد صحبتُ الشيخَ في كلِّ أوقاتِهِ، في حضره وسفره ومرضه، فما عهدته إلا يزداد أُنساً ولُطفاً.. وحكمةً وإخلاصاً.. وعلماً وتعليماً.

رغم كُلِّ الظروف الصّعبة التي تُحيطُ به.

كان الشَّيخ يرمقني باسماً، وكانتْ هي تنقل نظراتها بيني وبين شيخنا.

فتابَعْتُ قائلةً: مُعظمُ العُظماء الذين قرأتُ عنهم أو درستُ شخصيَّتهم لم تكنْ جوانب حياتهم الخاصة كاملة كحياتهم العملية، بل إن الكثير منهم كانت حياته الخاصة بائسةً.. بل مخجلة!.. ووالله ما رأيتُ في الشيخ إلا الكمال، فإنَّ صورته في كلِّ دقائق حياته جميلة ورائعة ومريحة، بل مُطابِقة لكلِّ ما يأمرُنا ويوصينا به، ومهما تحدَّثتُ عن شخصيَّتِهِ لا أوفيه حقَّهُ، فالواقعُ أجملُ وأروع.

هَمَسَتْ: “أوو..”، ثم قالت: وهي تضحك: أنتِ شاعرةٌ وعاشقةٌ…

ضحِكْنا جميعاً ثُمَّ أخرجتْ أوراقها وسألت شيخنا متحفِّزة:

“صُورَةُ الإسلام في العالم اليوم: الإرهاب.. فماذا تقولون؟!..”.

ابتسم شيخنا قائلاً: (أولاً: الإرهاب بمفهوم الإسلام هو تخويف العدوِّ، وليس كما تفكِّرون..! فالإسلامُ يحرِّم الاعتداء على أيّ مخلوق، ورسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم يقول: «القاتلُ والمقتول في النار، قالوا: هذا القاتل فما بالُ المقتول؟ قال صلى الله عليه وسلم: إنَّه كان حريصاً على قتل صاحبه»([1]).

الإسلامُ يحرِّم الاعتداء على أيّ مخلوق

فاعتبره قاتلاً بنيِّتِه، وفي القانون الإلهي حتى الذي يُساعدُ على القتل يُعتبر قاتِلاً، ففي الحديث الشريف: «مَنْ أعانَ على قتل مؤمن بشطر كلمة لقي الله عز وجل مكتوب بين عينيه آيسٌ من رحمة الله»([2]).

والمؤمن في الإسلام: «من أمِنَه الناس على أموالهم وأنفسهم»([3]).

الإسلام يحتاج إلى المعلم الكفء لِيُعرِّف الناس عليه.

الإسلام نهوض بالإنسان في كلِّ أموره الدينية والدنيويَّة التي تعودُ عليه وعلى الآخرين بالسَّعادة والخير).

الإسلام نهوض بالإنسان في كلِّ أموره الدينية والدنيويَّة

ثم رفع صوته ناظراً إليها: (ما يحدثُ في فلسطين الآن ومنذ خمسين سنة.. أليس إرهاباً؟!.. قتلُ شعب أعزل من السِّلاح، أليس جريمة وحشيَّة؟!..

ما يحدثُ في فلسطين الآن ومنذ خمسين سنة.. أليس إرهاباً؟!

شرَّدَ الإسرائيليون الفلسطينيين وهجَّروهم إلى جميع البلاد، وإذا أراد مجلس الأمن إعطاء حقٍّ بسيط لهم، تقف أمريكا ومن يناصرها في ظُلمها لتعارض وتمنع!.. فهل هذا مُشرِّف للإنسان وإنسانيته؟!..

هل هذا هو السلام الذي يُطالبون به؟!. أليس هذا إرهاباً؟!.).

ثم تابع شيخُنا وقدْ اكتسَى وجهَهُ حُزناً وأسىً: (أليس هذا مخجلاً؟!.. أليس هذا قتلاً لحقوق الإنسان؟!. هل هذه هي تعاليم المسيح عليه السلام؟!.. هل هذه هي تعاليم سيدنا موسى عليه السلام ؟!..

كلُّ هذا الاعتداء على الأطفال والنساء جائزٌ لهم!..

ودفاع المظلوم عن نفسه إرهابٌ وغيرُ جائز!..).

كانت تهزُّ رأسها مُوافقةً فتابَعَ: (أين الصحافة الإنسانية؟! أين الضمير العالمي؟!.

في الإسلام حتَّى الساكت عن الحقِّ مؤاخذ ومُحاسَب. ثم نقولُ المسلمونَ إرهابيّون!..).

نفضَ يديْه وقالَ: (سُبحانَ الله!.. لا إنصافٌ ولا عدلٌ!.. ولكنَّ الله عادل لا يُهْمِل، والحسابُ قادم.. غداً في عالم الدَّينونة الأمر أشدُّ على القاتِل وشريكه).

اعتدلت في جلستها وقالت متوجِّسَة: “إنَّ الجهاد فرضٌ في الإسلام، أليس الجهادُ قتالاً؟”.

ردَّ عليها بهدوء متسائلاً: (مَنْ تقاتلينَ أنتِ؟.. الثُّعبان؟.. العقرب؟.. الذي يؤذيكِ ويُهاجِمُك!!. أمَّا النعجة والدَّجاجة فلا حاجة للجهاد ضدَّها).

ضحِكَ الجميعُ فتابَعَ شيخنا: (الجهادُ في سبيل الله ليس اعتداء بل ردٌّ لاعتداء الظالم وعُدوانِهِ وهُو ليس هُجوماً بل دفاعاً عن النَّفس والإيمان.

الجهادُ في سبيل الله ليس اعتداء بل ردٌّ لاعتداء الظالم وعُدوانِهِ

الجهادُ هُو بذل الجهد لإنقاذ الإنسان المظلوم من الإنسان الظَّالم الجائر.

الجهادُ هُو بذل الجهد لإنقاذ الإنسان المظلوم من الإنسان الظَّالم الجائر

والله تعالى يقول: { وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ } ([4]).

والقوّة الحربية إنما وُجدَت لأجل المحافظة على الشريعة العادلة وإيصال الهداية للجميع وليس لأجل الإكراه أو الظلم.. وأعظم الجهاد مجاهدة هوى النفس وشهواتها، عندها يكونُ الإنصاف من نفسك والعدلُ للآخرين).

أعظم الجهاد مجاهدة هوى النفس وشهواتها، الإنصاف من نفسك والعدلُ للآخرين

بَدَتْ أسارير وجهها تعبِّر عن ارتياحها، فعادت تسأل ثانية: “سمعنا كثيراً عن الأصوليّة في الإسلام..”، وتابعت بتردُّد: “وهناك أيضاً هذا المنحى في الكنائس فما تقولون؟..”.

هزَّ رأسَهُ مبتسماً وقال بهدوء: (يجبُ أن نعرف أوّلاً ما معنى الأصوليّة؟.

الأصولية كما عرَّفها روجيه غارودي([5]): بأنها فرضُ أحد الطرفين رأيه على الآخر فرضاً إجبارياً والأصولية في الإسلام غير موجودة.

هناك أصولية في الشيوعيّة، فهي تفرض معتقداتها على الإنسان وكذلك النازيَّة.. وكذلك الفاشية.

أما الإسلام فيمنع فرض العقيدة على أيِّ إنسان.

فالإنسان حرٌّ فيما يعتقد، والدّعوة إلى العقيدة تكونُ بالحوار.. والإقناع.. والبُرهان.. والدليل..، وعندها له الخيارُ والمشيئة. لذلك يكرِّرُ القرآن في سور متعدِّدة محاربَة فرض العقيدة على الآخرين، ويُعلن أنّ الإنسان حُرٌّ فيما يعتقد، لأنّ الإيمانَ لا يكونُ بالإكراه.

الإيمانُ في القلب ولا يُمكن إكراه القلب على ما لا يهوى..

يقول تعالى: { لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ } ([6]).

ويقول أيضاً: { فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} ([7]).

حتى أنَّ الله يعاتب نبيَّه الكريم لحرصه الشديد على هداية قومه:
{ أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ } ([8]).

فالإسلام عدوُّ الأصوليَّة، وهي ليست منه وهو ليس منها… والإسلام أعطى الحريَّة لكلِّ معتقد… والدليل وجود الكنائس والكُنس في العالم الإسلامي).

الإسلام أعطى الحريَّة لكلِّ معتقد

بدَتْ منفعلةً، ولكنها كانت تبدي ارتياحاً لإجابات الشيخ فسألتْهُ: “عفواً سماحة الشيخ..: يُقال إنَّ سورية دولة علمانيَّة، ولكنْ يبدو أنَّ لديكم تجمُّعاً دينياً جميلاً في سوريا لكلِّ الديانات.. كثيرٌ من الدُّول ليست علمانية ولا يوجد أيُّ تسامُح بين المجموعات الدينية المختلفة فيها، وعلمْتُ أنكم منذ خمسين سنة تحاولون التقريب بين الطوائف الدينية المختلفة.

ابتسم شيخنا ثُمَّ أجاب وهو يمسح وجهه بيديه: (إذا لم يكنْ هناك تسامح بين الأديان فهذا يتنافى مع التعاليم الإسلامية وغير الإسلامية، لأن الله يحبُّ أن يكونَ المؤمنون به كالجسد الواحد في تعاطفهم وتراحمهم).

نظرَتْ في مفكرتها ثُمَّ قالت: سؤال أخير وأرجو ألا أكون قد أتعبتكم.

علمْتم بالْحَمْلة التي مفادها أنَّ معظم اليهود الموجودين في سوريا غادروا إلى نيويورك أو إلى تل أبيب. فما رأيكم بهذه الحملة التي أجْريَت لإخراج اليهود من سورية؟

ضحك شيخنا وقال: (الإنسان حرٌّ في تنقله؛ الإسلام لا يجبر أحداً على مغادرة أيِّ مكان، وهناك شواهد كثيرة على ذلك في التاريخ الإسلامي. ولكنْ قد تكون هناك أمورٌ سياسيَّة لا علاقة لها بالإسلام).

وهنا عقَّبَ الأستاذ فاروق أقبيق: سيِّدي هناك حملةٌ شنَّها اليهود بالذات، ليقنعوا يهود سوريا بالخروج بحجة الخوف على سلامتهم.

ابتسم شيخنا بهدوء قائلاً: (منذ نشوء دولة إسرائيل إلى هذه اللحظة لم يحصل أي اعتداء على أي يهودي في سوريا لا بكلمة ولا بعمل، ومِمَّا علمتُ أنَّ كثيراً مِمَّن ذهب إلى إسرائيل ندِمَ على ذهابه لأنهم وجدوا أنفسهم أنهم كانوا أسعد حالاً في سوريا، مِمَّا هم في إسرائيل وغيرها الآن).

ضحكت الصحفيَّة وقالت: “إجابتكم حقيقية.. وأنتم لستم مفتياً عاماً بل مفتياً عظيماً جداً.

ضحك الحضور وصفَّقوا، ورَمَقَتهُ بعين الودِّ والاحترام مثنية عليه بعبارات الشكر، ثم قالت: هل تسمحُ لي أن أجلس مع زوجتك قليلاً؟.

ابتسم شيخنا موافقاً وقال: (ما ينقصُ الإسلام في هذا العصر هو التعريف به، فقد شوَّهَتهُ أعمالُ بعض المسلمين التي لا تنطبق ولا تتلاقى مع حقيقة الإسلام، والتي كان أغلبُها ردَّة فعل لظلم الآخرين وتجبُّرهم.. الإسلام لا يفرِّق بين إنسان وآخر مهما اختلف الدِّين أو اللون أو القوميَّة، ويقول رسولنا الكريم: «كلُّكُم لآدم وآدمُ من تراب، إنَّ أكرمكم عند الله أتقاكم»([9])).

ما ينقصُ الإسلام في هذا العصر هو التعريف

الإسلام لا يفرِّق بين إنسان وآخر مهما اختلف الدِّين أو اللون أو القوميَّة

ثم التفت باسماً: (ما سمِعْتِهِ الآنَ صارَ أمانةً في عنقك لتوصيله إعلاميّاً للآخرين).

جلسنا غير بعيدين عنه، وكان يرْمُقنا بين الفينة والفينة مُتوَجِّهاً ومُشجِّعاً.

قالت لي: “سؤال وحيد يدورُ في ذهني: ما الذي يحدُث في سورية؟..”.

بناتُ العائلات المرموقة، والفتياتُ المترفات خاصّةً يرجعْنَ إلى الدِّين ويحفظْن القرآن!..

كانت الشوارع في سورية تزدحم بالفتيات السَّافرات اللاهيات ذوات الشعر المُرَجَّل والثياب القصيرة والوجه المصبوغ”.

نظَرَتْ إلى زوجة المُرافق وكأنها آسفة لما تقول، فقد بَدَتْ وكأنَّها تصِفُها ثم تابعت: “الآن.. حجاب ومانطو، وحضورٌ في المساجد وحفظُ قرآن!..”.

قبل أن أبدأ بالجواب، انتقل الشيخ بشير الباني -رحمه الله- وجلس معنا وهمسَ لي تكلَّمي بالإنكليزية حتى لا يُغيّر المترجم الحديث.

نظرَتْ إليه متسائلةً ثُمَّ تابعَتْ: “أين البنات “السبور” في الشوارع؟!.. أين الشبابُ المخنَّث على المتورسيكلات والسيَّارات الفارهة؟!.. ما الذي حدث؟.. أين الأغاني والموسيقى العالية والشباب الضائع في الشوارع؟!.. ما هو السّرُّ؟ كيف حدث هذا التغيير؟!.. إنه شيء غير طبيعي!..

قيل لي إنَّ الشيخ وراء ذلك كلَّه، وقد رأيت الجامع فعلاً مزدحماً بآلاف الشباب والشابات”.

كنتُ أنظرُ إليها باسمةً، ولسانُ حالي يقولُ: ما الذي تريدُه؟!.. وكيف رأت هذا؟!.. فعلاً إنَّهم يدرسون حركاتنا وتصرُّفاتنا، نجاحنا وفشلنا، كُلَّ شيء!.. ولكنْ لماذا؟..

قلتُ لها بهدوء وحنان: سبحان الله عندما تتعرَّف الإنسانةُ على طعم الإيمان الحقيقي تجدُ نفسها في توازنٍ وسعادةٍ، وراحةٍ وثقةٍ بالنفس، واحترام من كلِّ الآخرين مهما كانوا. خاصَّة أنَّ تلك العودة دائماً تكون بخيارها وحريّتها، ولأنَّ الدِّين ينظفُ الإنسان من عيوبه، ويجعله أسمى وأطهر وأسعد فيُسارع لتصحيح خطئه مع ربِّه ومع نفسه ومع الآخرين.. عندها يتلذَّذ روحياً بطاعةِ اللهِ وحبِّهِ ورضاه، هذا السّمو الروحي يُسعِدُ الإنسان الدَّاخلي فيه، فيفكِّر في إهداء تلك السعادة للآخرين المقرَّبين لأحبَّةِ القلب مِمَّن حوله، حتى تلفَّهم السَّكينة والسَّلام والطمأنينة، لأنه يحبُّ لهم ما أحبَّ لنفسه من سعادة، كما قال رسولنا الكريم: «لا يؤمن أحدكم حتى يُحبَّ لأخيه ما يُحِبُّ لنفسه»([10]).

كما أنَّ إبلاغ رسالةِ الإسلام وخدمة عباد الله فرضٌ في الإسلام، كفرض الصلاة والزَّكاة والصَّوم، وهذه أولويات الإيمان، فكلُّ مسلم يجبُ أنْ يكونَ داعياً لغيره، وقدوتنا وأسوتنا فعلُ رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدعوة إلى الله وتبليغ رسالته.

وأخيراً وليس آخراً، رأينا ما وصلَ إليه المجتمع عندكم بعد أن ابتعد عن الإيمان، وعن أوامر الله من مُعاناة الجرائم والمخدِّرات والأمراض الجنسيّة وعصابات الإجرام، مِمَّا جعلنا نفكِّر سريعاً بالعودة إلى الإيمان، فالإنسان بلا إيمان: وحشٌ أوحيوانٌ أو شيطان.

نظَرَتْ إليَّ باستغراب!..

فتابَعْتُ: نَعَمْ خِفنا وعُدْنا..

ونرجو أن يعود الشَّاردون إلى محبَّة الله، لأنَّه لا سعادة لهم بعيداً عنهُ.

قالتْ بسرعة: ولكنْ في فرنسا لم يصلْ الأمرُ إلى هذا الحدِّ!…

أجبتُها: نحنُ نرى في التلفاز أنَّ هذا الهبوط الأخلاقي والفساد والإجرامَ، قد عمَّ كلَّ بلاد الغرب، وحتى في مدارس الأطفال والمراهقين في فرنسا وأمريكا وغيرها.

نعم وجدنا أنَّ البعدَ عن الله ودينه سيجرُّنا إلى نفس اللعبة القذرة، وسنفقدُ أصالتنا وأنفُسَنا وأولادنا إذا انزلقنا إليها وابتعدنا عن تعاليم الله عز وجل.

كانت تدوِّنُ ما أقوله بتشنُّج وتتحرَّك بعصبيَّة.. تُشعل السيجارة تارةً وتنساها أخرى، ثم تنفثُ فيها عدّة نفثات مُتلاحِقة، وتقِفُ وتتحرَّكُ مُتعبة.

تأمَّلتُها مليّاً مُستغرِبةً عدَمَ توازنها!.. وأحسستُ بها وكأنَّها حبَّة بوشارٍ في المقلاة تتقلَّبُ بعذاب، وكأنَّها أحسَّت ما بداخلي من دهشةٍ فقالتْ بقسوة: “أنتُنَّ نساء العرب مُرتاحات وهادئات أكثر مِمَّا يجب، وبصراحة أنتُنَّ مُترفات ومحاطاتٌ بمن يخدمكُنَّ ويرعاكُنَّ، لذلك أنتُنَّ لستُنَّ قلقاتٍ بالنسبةِ للمستقبل”.

قلتُ لها مُبتسِمَةً مُتسائلةً: لماذ؟.. ألا يوجد أغنياء كثيرون ينتحرون؟!.. بل وضيوفٌ ملازمون للأطباء النفسيِّين، ولا يُحِسُّون سلاماً ولا راحة؟!…

ثُمَّ تابعْتُ: عزيزتي نحنُ بالإيمان أقوياءُ وسُعداء ولا نخشى إلا الله، لذلك ترين السكينة والطمأنينة، وليس البرود كما تفكرين.

في الإسلام علاجٌ لهذا القلق والجُهد المبذول بلا طائل.

قالتْ بتحفُّزْ: وكيف؟!..

قلتُ: اللهُ تعالى يقول:{ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ } ([11]).

ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم يقول: «تفكُّر ساعة خيرٌ من عِبادَةِ سنة»([12]).

تفكُّر ساعةٍ في عظمةِ الله ونعَمِهِ وخلقِهِ وكونِهِ، يدفعُ المرء إلى الأمام سواءٌ في حياته الرُّوحيّة أو الماديّة أو العلميّة، مِمَّا يُحيي قلبه وروحه وينوِّر عقله، فيعودُ عليه علماً وطمأنينةً وراحَةً ويقيناً بأنَّ الله لن يخذله، وبقدرِ صدقه وتوجُّهه ترشَحُ إليه لطائفُ من صفات الله فتلفُّهُ السكينة والسعادة والبصيرة في كلِّ أمر.

قالت بسرعة: كيف…؟! علميني…!.

نفد صبْرُ مُرافقها الذي كان يُشيرُ إليها بإنهاء الحديث مُدَّعياً تأخُّرهم…

تابَعْتُ -ناظرةً إليها-: إذا جئتنا ثانيةً بلا مواعيد ولا أشغال أعلِّمُكِ ذلك، ولَرُبَّما تُحسِّين الرَّاحة والاطمئنان والسَّلام الذي تبحثين عنه.

وقف مرافقها وصارَ يشدُّها بقوّة دون أيِّ لطفٍ أو تهذيبٍ ويصيحُ بها: هيَّا.. هيَّا تأخَّرنا، بينما هي تسجِّل رقم هاتفي لتعودَ، علَّها حقاً ترتاحُ وتستعيدُ إنسانيّتها التي نسيتها عبْرَ انشغالها وتنافُسِها بأعمالها ودُنياها.

عُدْتُ إلى مجلسِ شيخنا حيث كان باسماً مستبشراً، حدَّثْتُهُ بحديثها وذكرَ له الشيخ بشير الباني -رحمه الله- موقف مُرافقها الذي حاول صرفها عن سماع الحقيقة وتَبَرُّمَهُ بشوقها لتعلُّم العلوم الإلَهِية…

سُعِدَ شيخنا كثيراً، ثُمَّ شبَّك أصابِعَهُ قائلاً: (أما سمعتم “جِسْب” حين قال: “مدارس البنات في بلاد الشَّام بؤبؤ عيني”، عيونُهُم علينا، يراقبوننا في كلِّ أمورنا حتى الخاصَّة فيها، لم يُعجِبْهُم ما نحنُ فيه من سلام وإيمان وسعادة.

إنَّهم يخططون لنا حتى يُفسدوا علينا إسلامنا، ولكنْ مَنْ يَنصُر الله ينصرُهُ الله، أدُّوا ما فرضَهُ الله عليكم من واجبات يُوفِّ الله بوعده وينصركم.

إنهم لا يريدوننا نصارى ولا يُريدون لنا ديناً…!، لأنَّ الإنسان بلا دين حيوانٌ لا يهمُّه سوى بطنِهِ وشهوته.

يريدون أن يستدرجوا أولادنا وبناتنا إلى ما انحدروا إليه من فوضى وتفلُّت وشبق وجريمة وأمراض…!.

صدق الله العظيم: { وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا } ([13])).

وقال وهو يستعدُّ للوقوف: (لا تيأسوا.. اليأس موتٌ وشلل، ولكن ابدؤوا بالعمل، والعطاءُ يستلزم العطاءَ الأكبر من الله).

لا تيأسوا.. اليأس موتٌ وشلل، ولكن ابدؤوا بالعمل

توضَّأنا وصلينا الظُّهر، ثم جلسنا للغداء وهو يَحمَدُ اللهَ، وقال متعجِّباً: (سُبحانَ الله!.. ماذا يريدون أكثر مِمَّا فعلوا ويفعلون بنا؟!.. سبحانه!… هو الملْجَأ وهو المنقذ إذا التجأنا إليه تخطيطاً وعملاً وتضرُّعاً، وأنا متفائلٌ بأنَّ الغدَ سيكونُ بإذنِ الله للإسلام).

([1]) رواه البخاري ومسلم والنسائي وأبو داود وابن ماجة وأحمد.

([2]) رواه أحمد وابن ماجة، وفي رواية لابن ماجة والبيهقي بلفظ: «قتل مسلم ولو بشطر كلمة».

([3]) ابن حبان والطبراني والحاكم عن فضالة بن عبيد رضي الله عنه.

([4]) سورة البقرة، الآية: (190).

([5]) روجيه غارودي: عضو سابق في الحزب الشيوعي الفرنسي، انتقل من الانتماء إلى الكنيسة المسيحية إلى الالتزام بالحزبية الماركسية، ثم انتقل إلى الإيمان بالشهادتين الإسلاميتين، فاعتنق الإسلام عام 1982م عن إيمان فكري عميق بعد أن وضع حداً لخلافاته مع الحزب الشيوعي بإصدار كتاب “الحقيقة كلها” وفُصِل من الحزب على أثر صدور هذا الكتاب، وله مؤلفات كثيرة عن الإسلام منها: وعود الإسلام، الإسلام وأزمة الغرب، فلسطين أرض الرسالات السماوية، المساجد مرآة الإسلام.

([6]) سورة البقرة، الآية: (256).

([7]) سورة الكهف، الآية: (29).

([8]) سورة يونس، الآية: (99).

([9]) أخرجه أحمد والترمذي عن أبي نضرة، وقال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح.

([10]) متفق عليه.

([11]) سورة الرعد، الآية: (28).

([12]) أخرجه ابن حبان في كتاب العظمة من حديث أبي هريرة بلفظ ستين سنة بإسناد ضعيف.

([13]) سورة النساء، الآية: (27).

ثمرك و حصادك

الشيخ أحمد كفتارو
ثمرك و حصادك

ثمرك و حصادك

الشيخ أحمد كفتاروبعد درس الجمعة الذي استمر ما يقارب الساعتين..

وبعد تأخر شيخنا أكثر من ساعة مع وفود وإخوان جاؤوا من خارج دمشق، سألني أحد الإخوان الكبار في الجامع:

كيف سيكون حال شيخنا بعد هذا الجهد؟

والله إنني أدخل بيتي بعد العمل في المجمع، فأقول السلام عليكم إيماءً، تسألني زوجتي: هل تريد أن تأكل؟ هل تريد أن تنام؟… أومئ برأسي فقط، ولا أستطيع أن أتكلم حتى الصباح، ليس لدي القدرة على مناقشة أي أمر لأنه لا وقت لدي، حتى حوائجي هناك من يشتريها لي!.

قلت له: سبحان الله، أنت في منتصف عمر شيخنا، وشيخنا رغم تعبه بعد درس الجمعة ورغم الجهد الذي يبذله غالباً في استقبال ومجاملة الضيوف ومحادثة الوفود والرد على أسئلتهم والاطمئنان على أمور الجامع والمجمع يدخل السيارة مرَّحِباً بي وبمن في السيارة ويسألني عن حالي، وعندما أسأله مشفقة، كيف حالك أنت سيدي؟ يقول مطمئناً ومبتسماً كعادته: (الحمد لله كله تمام، ضغطي بعد الدرس أفضل، وأنا أحس بنشاط. الحمد لله).

مع أنه غالباً ما يكون قد غادر المزرعة متعباً أو ضغطه مرتفعاً.

ومع ذلك لا أكاد أسمع منه كلمة: إنني متعب، أو لا أستطيع أن أتكلم الآن إلا فيما ندر وذلك عندما يكون ألمه قد تجاوز كل حد.

وفي طريق العودة للمزرعة يسألني:

(ماذا كان الدرس؟ وما هي الآيات والأحاديث؟ وما هي الومضات التي اصطدتها؟).

وكان يسعد كثيراً عندما أسرد له الدرس والأفكار التي حواها والعبارات الموجزة الجامعة لأفكاره العظيمة والتي سمعتها بقلبي قبل أذني، ثم ألخص له التمهيد والعرض والأمثلة والحلول والتسلسل المنطقي لكل منها، فيضحك ويقول:

(أصبحتِ شيخة كبيرة، رعاك الله وحماك، وجعلك في خدمة دينه اللهم آمين، الحمد لله لقد جئت سداداً من عوز، لقد جئت في الوقت المناسب، لقد امتن الله عليَّ بكِ، كنت آمل كثيراً أن أحظى بزوجة مثقفة تفهمني وتملك هذا الحسّ المرهف لفهم ما أريد ولإيصاله للآخرين، ما شاء الله ما شاء الله).

عندها أضحك وأقول: هذا كله ثمرك وحصادك.

فيقول سعيداً وقد نسي تعبه:

({وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ } ([1])، أرجو أن تكوني أبداً صدقة جارية في صحيفتي).

فأمتلئ سعادة وأحمد الله على توفيقه وفضله راجية منه الثبات.

وعند الغداء يجلس حامداً شاكراً الله على نعمه مستمعاً للأخبار، مشفقاً على حال المسلمين، متحسراً على هذا الجهاز العظيم “التلفاز” الذي جعلوه للتسلية واللهو حتى يغفو المسلمون في نومهم أكثر، وحتى يبتعدوا عن دينهم ويغرقوا في الملذات والأهواء فينسوا مسؤوليتهم في الدعوة إلى الله وفي العودة إلى الله.

وكان يردد دائماً:

(عجباً لقومي والعدو ببابهم      كيف استطاعوا اللهو واللعب)

ويقول: (لو استعملوا هذا الجهاز لعرض الإسلام العرض الحقيقي، ولتربية الأخلاق، لعمَّ السلام في الأرض ولعادت الأخلاق وانتهت الحروب).

ويتابع: (أنا متفائل، سيكون لهذا الجهاز مستقبل أفضل من هذا بكثير، لكن إذا استيقظ ضمير الإعلاميين وحوّلوه لأداة هادفة لسعادة المجتمع وإيمانه وارتقائه، لا بد أن يأتي هذا اليوم ويكون التلفاز معلماً للملايين وعندها نكون قد اختصرنا الطريق الطويل لإيقاظ العالم وإصلاحه.

إن شاء الله، إن شاء الله).

ثم يمسح وجهه بيديه داعياً الله أن يحقق الهدف.

([1]) سورة ص، الآية: (88).

الإسلام عدو الفكر المتطرف الأصولي

الشيخ أحمد كفتارو
الإسلام عدو الأصولية

الإسلام عدو الفكر المتطرف الأصولي

الشيخ أحمد كفتارولقاء مع بولينك – نيسان 1998

رحب شيخنا بالضيوف وتمنى لهم إقامة مباركة في بلدنا ثم سأل البرفسور بولينك:

ما دور العلمانية في فصل الدين عن الدولة؟

ابتسم شيخنا قائلاً: العلمانية حدثت لما ظهر الدين يعارض العلم والآن وقد انتشرت الحقائق العلمية لم يعد الإنسان يتقبل ذلك الدين الذي مال عن العلم فدعا إلى أن يفصل العلم عن الدين. أما في الإسلام فكله يقوم على العلم وكل حقيقة علمية يعتبرها الإسلام  حقيقة إسلامية دينية فليس هناك تنافر وتناقض بين العلم وبين الدين.

لا يوجد في الإسلام تنافر وتناقض بين العلم وبين الدين

في العالم الغربي رأوا هذا التناقض ففصلوا بين العلم والدين وأفيد الأخ أن الإسلام يفرض على الدولة أن تكون علمانية لأن الإسلام في الأصل هو علماني ففي الحديث الشريف: «طلب العلم فريضة على كل مسلم»([1]) والعلم فرض على الفرد وعلى الجماعة وعلى الدولة يقول رسولنا الكريم: «الناس رجلان، عالم ومتعلم ولا خير فيما سواهما» ([2]).

قال الضيف: نسمع كثيراً عن الأصولية في الإسلام وكذلك عندنا ذلك المنحى من الأصولية في الكنائس فما هو رأيكم فيما يتعلق بالأصولية مقابل الدولة؟

اعتدل شيخنا في جلسته قائلاً: يجب أن نعرف ما هو معنى الأصولية، قرأت لروجيه غارودي عن الأصولية -لأن الأصولية في الإسلام غير موجودة- يُعرِّف الأصولية بأنها فرض أحد الطرفين على الآخر فرضاً إجبارياً الشيوعية أصولية لأنها تفرض على الإنسان معتقداتها، وهناك الأصولية النازية والأصولية الفاشية.

أما الإسلام فهو يمنع فرض العقيدة على أي إنسان فالإنسان حر فيما يعتقد لذلك نحن لا يوجد عندنا أصولية بل الآن نسمع عنها في السنوات العشرين السابقة، وفي الإسلام الدعوة إلى العقيدة تكون بالحوار بالإقناع، بالبرهان بالدليل، لقد حارب القرآن في مواضع متعددة فرض العقيدة على الآخرين يقول الله عز وجل: «لا إكراه في الدين» وعاتب الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم قائلاً: أفأنت تكره الناس على أن يكونوا مسلمين» لذلك الإسلام هو عدو الأصولية وهي ليست منه وليس منها.

الإسلام يمنع فرض العقيدة على أي إنسان فالإنسان حر فيما يعتقد

قال الضيف: أريد أن أتابع هذا السؤال لو سمحتم، سورية دولة علمانية وعندكم تجمع ديني جميل في سورية لكل الديانات وفي بعض الدول الغير عربية ليست علمانية ولا يوجد تسامح بين المجموعات الدينية المختلفة.

رد شيخنا باسماً: إذا وجد عدم تسامح ديني فهذا يتنافى مع التعاليم الإسلامية، وهذا عمل سياسي وليس عمل إسلامي.

شكر الضيوف شيخنا كثيراً وودعوه.

([1]) سنن ابن ماجه، باب فضل العلماء والحث على طلب العلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه، والبزار في مسنده.

([2]) المعجم الكبير للطبراني: ج10 ص201.