في يوم الجمعة وتحديداً في الغرفة المخصَّصة لي لحضور مجلس شيخنا في مسجد أبي النور.
زارتنا الأختُ الفرنسيَّة مُديرة صحيفةِ (Paris match) في أواخر التسعينات. ولفتَ انتباهُها انشغالي بكتابةِ المحاضرة، فقد كانتْ ترمقني أنا والموجوداتِ بنظراتها المتوالية، ولم يكنْ يفوتها ايماءاتي بأنْ يكُنَّ أكثرَ هُدوءاً.
كانت عيناها تدوران فيما حولها مُتأمِّلة حرمَ المسجد الذي مُلئ بجموع الرَّجال والشُبَّان والأطفال، رُغم انشغالها بتدوين ما تسمعُ عبر الترجمة.
وعندما انتهى الدَّرس، سلَّمت عليَّ ورجَتني أنْ تلتقي مع الشيخ.
في صباح يوم السَّبت تمشينا في المزرعة، ثُمَّ جلس شيخنا قليلاً ليستريح.. وسُرعان ما توالتْ حمائم المزرعة كعادتها لزيارتنا، فشرع الشيخُ يُطعمُها بتفاؤل وحُبور قائلاً: (مَنْ الَّذي لا يُحبُّ الخير؟.. مَنْ يرفض العطاء؟..).
فجأةً ابتعدت الحمائم مع وصول تلك الصحفيَّة ومُرافقها.
وها هي تطلُّ علينا بقامتها الطويلة وغطاء رأسِها الخفيف الذي يسْتُرُ شعرَها وقميصها الفضفاض وبنطالها الخاكي.
بدَتْ وقد طبع الزمان على وجهها وسلوكها شدَّةَ وقسوةَ الرجال.
حقّاً لقد دُهِشْتُ عند رؤيتها وقلتُ في نفسي: أفرنسيَّة من بلدِ الموضات ترتدي ثياباً عاديَّةً عمليَّة؟!.. لماذا لا تلبسُ ما صمَّموه لبناتنا من ثياب قصيرة ضيِّقَةٍ مزركشة تكادُ تُظهِرُ أكثر مما تخفي؟!.. لماذا لا تضعُ على وجْهِهَا شيئاً من الأصباغ التي لطَّخَتْ وشوَّهَت وجُوه فتياتنا الصَّغيرات والموظَّفات والمُذيعات.. وحتَّى العجائز؟!..
سلَّمتْ علينا وعيناها تنظرُ إلى شيخنا بثباتٍ متفحِّصةً المكانَ حولنا وكأنَّها تستنتجُ شيئاً ما..!
رحَّب بها شيخنا باسماً، فبادرته قائلةً: “حضرتُ البارحة محاضرتكم واستغربت ازدحامَ المكان على رحبه بالشَّباب والشَّابات!..”.
ابتسم شيخنا وهزَّ رأسَهُ.. ثم تابعَتْ: “ما أثار دهشتي صراحةً جدِّيَّة زوجتكم والتزامها في حضور الدَّرس، وكتابتها للأفكار المطروحة فيه، مما شدَّني للقائكم شخصيّاً.
فالزوجة آخر من يهتمُّ ويقتنع بحديث الزَّوج ومقامِه، ولو كان رجل دين!…”.
ضحك شيخنا طويلاً ونظر إليَّ بودٍّ وحنان، ثُمَّ قال: (من نعمة الله عليَّ وعليها أن جاءتْ مُريدةً -تلميذة- وحفظها الله فبقيت مُريدة).
نظرتُ إليها وقُلتُ: ولأن حقيقة الشيخ واحدةً لم تتغيَّر، بل إنَّ كمالَهُ ممتدٌّ إلى حياتِهِ الخاصَّة كما في حياتِهِ الدَّعوية.
وتابعتُ: بصراحة لقد صحبتُ الشيخَ في كلِّ أوقاتِهِ، في حضره وسفره ومرضه، فما عهدته إلا يزداد أُنساً ولُطفاً.. وحكمةً وإخلاصاً.. وعلماً وتعليماً.
رغم كُلِّ الظروف الصّعبة التي تُحيطُ به.
كان الشَّيخ يرمقني باسماً، وكانتْ هي تنقل نظراتها بيني وبين شيخنا.
فتابَعْتُ قائلةً: مُعظمُ العُظماء الذين قرأتُ عنهم أو درستُ شخصيَّتهم لم تكنْ جوانب حياتهم الخاصة كاملة كحياتهم العملية، بل إن الكثير منهم كانت حياته الخاصة بائسةً.. بل مخجلة!.. ووالله ما رأيتُ في الشيخ إلا الكمال، فإنَّ صورته في كلِّ دقائق حياته جميلة ورائعة ومريحة، بل مُطابِقة لكلِّ ما يأمرُنا ويوصينا به، ومهما تحدَّثتُ عن شخصيَّتِهِ لا أوفيه حقَّهُ، فالواقعُ أجملُ وأروع.
هَمَسَتْ: “أوو..”، ثم قالت: وهي تضحك: أنتِ شاعرةٌ وعاشقةٌ…
ضحِكْنا جميعاً ثُمَّ أخرجتْ أوراقها وسألت شيخنا متحفِّزة:
“صُورَةُ الإسلام في العالم اليوم: الإرهاب.. فماذا تقولون؟!..”.
ابتسم شيخنا قائلاً: (أولاً: الإرهاب بمفهوم الإسلام هو تخويف العدوِّ، وليس كما تفكِّرون..! فالإسلامُ يحرِّم الاعتداء على أيّ مخلوق، ورسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم يقول: «القاتلُ والمقتول في النار، قالوا: هذا القاتل فما بالُ المقتول؟ قال صلى الله عليه وسلم: إنَّه كان حريصاً على قتل صاحبه»([1]).
الإسلامُ يحرِّم الاعتداء على أيّ مخلوق
فاعتبره قاتلاً بنيِّتِه، وفي القانون الإلهي حتى الذي يُساعدُ على القتل يُعتبر قاتِلاً، ففي الحديث الشريف: «مَنْ أعانَ على قتل مؤمن بشطر كلمة لقي الله عز وجل مكتوب بين عينيه آيسٌ من رحمة الله»([2]).
والمؤمن في الإسلام: «من أمِنَه الناس على أموالهم وأنفسهم»([3]).
الإسلام يحتاج إلى المعلم الكفء لِيُعرِّف الناس عليه.
الإسلام نهوض بالإنسان في كلِّ أموره الدينية والدنيويَّة التي تعودُ عليه وعلى الآخرين بالسَّعادة والخير).
الإسلام نهوض بالإنسان في كلِّ أموره الدينية والدنيويَّة
ثم رفع صوته ناظراً إليها: (ما يحدثُ في فلسطين الآن ومنذ خمسين سنة.. أليس إرهاباً؟!.. قتلُ شعب أعزل من السِّلاح، أليس جريمة وحشيَّة؟!..
ما يحدثُ في فلسطين الآن ومنذ خمسين سنة.. أليس إرهاباً؟!
شرَّدَ الإسرائيليون الفلسطينيين وهجَّروهم إلى جميع البلاد، وإذا أراد مجلس الأمن إعطاء حقٍّ بسيط لهم، تقف أمريكا ومن يناصرها في ظُلمها لتعارض وتمنع!.. فهل هذا مُشرِّف للإنسان وإنسانيته؟!..
هل هذا هو السلام الذي يُطالبون به؟!. أليس هذا إرهاباً؟!.).
ثم تابع شيخُنا وقدْ اكتسَى وجهَهُ حُزناً وأسىً: (أليس هذا مخجلاً؟!.. أليس هذا قتلاً لحقوق الإنسان؟!. هل هذه هي تعاليم المسيح عليه السلام؟!.. هل هذه هي تعاليم سيدنا موسى عليه السلام ؟!..
كلُّ هذا الاعتداء على الأطفال والنساء جائزٌ لهم!..
ودفاع المظلوم عن نفسه إرهابٌ وغيرُ جائز!..).
كانت تهزُّ رأسها مُوافقةً فتابَعَ: (أين الصحافة الإنسانية؟! أين الضمير العالمي؟!.
في الإسلام حتَّى الساكت عن الحقِّ مؤاخذ ومُحاسَب. ثم نقولُ المسلمونَ إرهابيّون!..).
نفضَ يديْه وقالَ: (سُبحانَ الله!.. لا إنصافٌ ولا عدلٌ!.. ولكنَّ الله عادل لا يُهْمِل، والحسابُ قادم.. غداً في عالم الدَّينونة الأمر أشدُّ على القاتِل وشريكه).
اعتدلت في جلستها وقالت متوجِّسَة: “إنَّ الجهاد فرضٌ في الإسلام، أليس الجهادُ قتالاً؟”.
ردَّ عليها بهدوء متسائلاً: (مَنْ تقاتلينَ أنتِ؟.. الثُّعبان؟.. العقرب؟.. الذي يؤذيكِ ويُهاجِمُك!!. أمَّا النعجة والدَّجاجة فلا حاجة للجهاد ضدَّها).
ضحِكَ الجميعُ فتابَعَ شيخنا: (الجهادُ في سبيل الله ليس اعتداء بل ردٌّ لاعتداء الظالم وعُدوانِهِ وهُو ليس هُجوماً بل دفاعاً عن النَّفس والإيمان.
الجهادُ في سبيل الله ليس اعتداء بل ردٌّ لاعتداء الظالم وعُدوانِهِ
الجهادُ هُو بذل الجهد لإنقاذ الإنسان المظلوم من الإنسان الظَّالم الجائر.
الجهادُ هُو بذل الجهد لإنقاذ الإنسان المظلوم من الإنسان الظَّالم الجائر
والله تعالى يقول: { وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ } ([4]).
والقوّة الحربية إنما وُجدَت لأجل المحافظة على الشريعة العادلة وإيصال الهداية للجميع وليس لأجل الإكراه أو الظلم.. وأعظم الجهاد مجاهدة هوى النفس وشهواتها، عندها يكونُ الإنصاف من نفسك والعدلُ للآخرين).
أعظم الجهاد مجاهدة هوى النفس وشهواتها، الإنصاف من نفسك والعدلُ للآخرين
بَدَتْ أسارير وجهها تعبِّر عن ارتياحها، فعادت تسأل ثانية: “سمعنا كثيراً عن الأصوليّة في الإسلام..”، وتابعت بتردُّد: “وهناك أيضاً هذا المنحى في الكنائس فما تقولون؟..”.
هزَّ رأسَهُ مبتسماً وقال بهدوء: (يجبُ أن نعرف أوّلاً ما معنى الأصوليّة؟.
الأصولية كما عرَّفها روجيه غارودي([5]): بأنها فرضُ أحد الطرفين رأيه على الآخر فرضاً إجبارياً والأصولية في الإسلام غير موجودة.
هناك أصولية في الشيوعيّة، فهي تفرض معتقداتها على الإنسان وكذلك النازيَّة.. وكذلك الفاشية.
أما الإسلام فيمنع فرض العقيدة على أيِّ إنسان.
فالإنسان حرٌّ فيما يعتقد، والدّعوة إلى العقيدة تكونُ بالحوار.. والإقناع.. والبُرهان.. والدليل..، وعندها له الخيارُ والمشيئة. لذلك يكرِّرُ القرآن في سور متعدِّدة محاربَة فرض العقيدة على الآخرين، ويُعلن أنّ الإنسان حُرٌّ فيما يعتقد، لأنّ الإيمانَ لا يكونُ بالإكراه.
الإيمانُ في القلب ولا يُمكن إكراه القلب على ما لا يهوى..
يقول تعالى: { لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ } ([6]).
ويقول أيضاً: { فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} ([7]).
حتى أنَّ الله يعاتب نبيَّه الكريم لحرصه الشديد على هداية قومه:
{ أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ } ([8]).
فالإسلام عدوُّ الأصوليَّة، وهي ليست منه وهو ليس منها… والإسلام أعطى الحريَّة لكلِّ معتقد… والدليل وجود الكنائس والكُنس في العالم الإسلامي).
الإسلام أعطى الحريَّة لكلِّ معتقد
بدَتْ منفعلةً، ولكنها كانت تبدي ارتياحاً لإجابات الشيخ فسألتْهُ: “عفواً سماحة الشيخ..: يُقال إنَّ سورية دولة علمانيَّة، ولكنْ يبدو أنَّ لديكم تجمُّعاً دينياً جميلاً في سوريا لكلِّ الديانات.. كثيرٌ من الدُّول ليست علمانية ولا يوجد أيُّ تسامُح بين المجموعات الدينية المختلفة فيها، وعلمْتُ أنكم منذ خمسين سنة تحاولون التقريب بين الطوائف الدينية المختلفة.
ابتسم شيخنا ثُمَّ أجاب وهو يمسح وجهه بيديه: (إذا لم يكنْ هناك تسامح بين الأديان فهذا يتنافى مع التعاليم الإسلامية وغير الإسلامية، لأن الله يحبُّ أن يكونَ المؤمنون به كالجسد الواحد في تعاطفهم وتراحمهم).
نظرَتْ في مفكرتها ثُمَّ قالت: سؤال أخير وأرجو ألا أكون قد أتعبتكم.
علمْتم بالْحَمْلة التي مفادها أنَّ معظم اليهود الموجودين في سوريا غادروا إلى نيويورك أو إلى تل أبيب. فما رأيكم بهذه الحملة التي أجْريَت لإخراج اليهود من سورية؟
ضحك شيخنا وقال: (الإنسان حرٌّ في تنقله؛ الإسلام لا يجبر أحداً على مغادرة أيِّ مكان، وهناك شواهد كثيرة على ذلك في التاريخ الإسلامي. ولكنْ قد تكون هناك أمورٌ سياسيَّة لا علاقة لها بالإسلام).
وهنا عقَّبَ الأستاذ فاروق أقبيق: سيِّدي هناك حملةٌ شنَّها اليهود بالذات، ليقنعوا يهود سوريا بالخروج بحجة الخوف على سلامتهم.
ابتسم شيخنا بهدوء قائلاً: (منذ نشوء دولة إسرائيل إلى هذه اللحظة لم يحصل أي اعتداء على أي يهودي في سوريا لا بكلمة ولا بعمل، ومِمَّا علمتُ أنَّ كثيراً مِمَّن ذهب إلى إسرائيل ندِمَ على ذهابه لأنهم وجدوا أنفسهم أنهم كانوا أسعد حالاً في سوريا، مِمَّا هم في إسرائيل وغيرها الآن).
ضحكت الصحفيَّة وقالت: “إجابتكم حقيقية.. وأنتم لستم مفتياً عاماً بل مفتياً عظيماً جداً.
ضحك الحضور وصفَّقوا، ورَمَقَتهُ بعين الودِّ والاحترام مثنية عليه بعبارات الشكر، ثم قالت: هل تسمحُ لي أن أجلس مع زوجتك قليلاً؟.
ابتسم شيخنا موافقاً وقال: (ما ينقصُ الإسلام في هذا العصر هو التعريف به، فقد شوَّهَتهُ أعمالُ بعض المسلمين التي لا تنطبق ولا تتلاقى مع حقيقة الإسلام، والتي كان أغلبُها ردَّة فعل لظلم الآخرين وتجبُّرهم.. الإسلام لا يفرِّق بين إنسان وآخر مهما اختلف الدِّين أو اللون أو القوميَّة، ويقول رسولنا الكريم: «كلُّكُم لآدم وآدمُ من تراب، إنَّ أكرمكم عند الله أتقاكم»([9])).
ما ينقصُ الإسلام في هذا العصر هو التعريف
الإسلام لا يفرِّق بين إنسان وآخر مهما اختلف الدِّين أو اللون أو القوميَّة
ثم التفت باسماً: (ما سمِعْتِهِ الآنَ صارَ أمانةً في عنقك لتوصيله إعلاميّاً للآخرين).
جلسنا غير بعيدين عنه، وكان يرْمُقنا بين الفينة والفينة مُتوَجِّهاً ومُشجِّعاً.
قالت لي: “سؤال وحيد يدورُ في ذهني: ما الذي يحدُث في سورية؟..”.
بناتُ العائلات المرموقة، والفتياتُ المترفات خاصّةً يرجعْنَ إلى الدِّين ويحفظْن القرآن!..
كانت الشوارع في سورية تزدحم بالفتيات السَّافرات اللاهيات ذوات الشعر المُرَجَّل والثياب القصيرة والوجه المصبوغ”.
نظَرَتْ إلى زوجة المُرافق وكأنها آسفة لما تقول، فقد بَدَتْ وكأنَّها تصِفُها ثم تابعت: “الآن.. حجاب ومانطو، وحضورٌ في المساجد وحفظُ قرآن!..”.
قبل أن أبدأ بالجواب، انتقل الشيخ بشير الباني -رحمه الله- وجلس معنا وهمسَ لي تكلَّمي بالإنكليزية حتى لا يُغيّر المترجم الحديث.
نظرَتْ إليه متسائلةً ثُمَّ تابعَتْ: “أين البنات “السبور” في الشوارع؟!.. أين الشبابُ المخنَّث على المتورسيكلات والسيَّارات الفارهة؟!.. ما الذي حدث؟.. أين الأغاني والموسيقى العالية والشباب الضائع في الشوارع؟!.. ما هو السّرُّ؟ كيف حدث هذا التغيير؟!.. إنه شيء غير طبيعي!..
قيل لي إنَّ الشيخ وراء ذلك كلَّه، وقد رأيت الجامع فعلاً مزدحماً بآلاف الشباب والشابات”.
كنتُ أنظرُ إليها باسمةً، ولسانُ حالي يقولُ: ما الذي تريدُه؟!.. وكيف رأت هذا؟!.. فعلاً إنَّهم يدرسون حركاتنا وتصرُّفاتنا، نجاحنا وفشلنا، كُلَّ شيء!.. ولكنْ لماذا؟..
قلتُ لها بهدوء وحنان: سبحان الله عندما تتعرَّف الإنسانةُ على طعم الإيمان الحقيقي تجدُ نفسها في توازنٍ وسعادةٍ، وراحةٍ وثقةٍ بالنفس، واحترام من كلِّ الآخرين مهما كانوا. خاصَّة أنَّ تلك العودة دائماً تكون بخيارها وحريّتها، ولأنَّ الدِّين ينظفُ الإنسان من عيوبه، ويجعله أسمى وأطهر وأسعد فيُسارع لتصحيح خطئه مع ربِّه ومع نفسه ومع الآخرين.. عندها يتلذَّذ روحياً بطاعةِ اللهِ وحبِّهِ ورضاه، هذا السّمو الروحي يُسعِدُ الإنسان الدَّاخلي فيه، فيفكِّر في إهداء تلك السعادة للآخرين المقرَّبين لأحبَّةِ القلب مِمَّن حوله، حتى تلفَّهم السَّكينة والسَّلام والطمأنينة، لأنه يحبُّ لهم ما أحبَّ لنفسه من سعادة، كما قال رسولنا الكريم: «لا يؤمن أحدكم حتى يُحبَّ لأخيه ما يُحِبُّ لنفسه»([10]).
كما أنَّ إبلاغ رسالةِ الإسلام وخدمة عباد الله فرضٌ في الإسلام، كفرض الصلاة والزَّكاة والصَّوم، وهذه أولويات الإيمان، فكلُّ مسلم يجبُ أنْ يكونَ داعياً لغيره، وقدوتنا وأسوتنا فعلُ رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدعوة إلى الله وتبليغ رسالته.
وأخيراً وليس آخراً، رأينا ما وصلَ إليه المجتمع عندكم بعد أن ابتعد عن الإيمان، وعن أوامر الله من مُعاناة الجرائم والمخدِّرات والأمراض الجنسيّة وعصابات الإجرام، مِمَّا جعلنا نفكِّر سريعاً بالعودة إلى الإيمان، فالإنسان بلا إيمان: وحشٌ أوحيوانٌ أو شيطان.
نظَرَتْ إليَّ باستغراب!..
فتابَعْتُ: نَعَمْ خِفنا وعُدْنا..
ونرجو أن يعود الشَّاردون إلى محبَّة الله، لأنَّه لا سعادة لهم بعيداً عنهُ.
قالتْ بسرعة: ولكنْ في فرنسا لم يصلْ الأمرُ إلى هذا الحدِّ!…
أجبتُها: نحنُ نرى في التلفاز أنَّ هذا الهبوط الأخلاقي والفساد والإجرامَ، قد عمَّ كلَّ بلاد الغرب، وحتى في مدارس الأطفال والمراهقين في فرنسا وأمريكا وغيرها.
نعم وجدنا أنَّ البعدَ عن الله ودينه سيجرُّنا إلى نفس اللعبة القذرة، وسنفقدُ أصالتنا وأنفُسَنا وأولادنا إذا انزلقنا إليها وابتعدنا عن تعاليم الله عز وجل.
كانت تدوِّنُ ما أقوله بتشنُّج وتتحرَّك بعصبيَّة.. تُشعل السيجارة تارةً وتنساها أخرى، ثم تنفثُ فيها عدّة نفثات مُتلاحِقة، وتقِفُ وتتحرَّكُ مُتعبة.
تأمَّلتُها مليّاً مُستغرِبةً عدَمَ توازنها!.. وأحسستُ بها وكأنَّها حبَّة بوشارٍ في المقلاة تتقلَّبُ بعذاب، وكأنَّها أحسَّت ما بداخلي من دهشةٍ فقالتْ بقسوة: “أنتُنَّ نساء العرب مُرتاحات وهادئات أكثر مِمَّا يجب، وبصراحة أنتُنَّ مُترفات ومحاطاتٌ بمن يخدمكُنَّ ويرعاكُنَّ، لذلك أنتُنَّ لستُنَّ قلقاتٍ بالنسبةِ للمستقبل”.
قلتُ لها مُبتسِمَةً مُتسائلةً: لماذ؟.. ألا يوجد أغنياء كثيرون ينتحرون؟!.. بل وضيوفٌ ملازمون للأطباء النفسيِّين، ولا يُحِسُّون سلاماً ولا راحة؟!…
ثُمَّ تابعْتُ: عزيزتي نحنُ بالإيمان أقوياءُ وسُعداء ولا نخشى إلا الله، لذلك ترين السكينة والطمأنينة، وليس البرود كما تفكرين.
في الإسلام علاجٌ لهذا القلق والجُهد المبذول بلا طائل.
قالتْ بتحفُّزْ: وكيف؟!..
قلتُ: اللهُ تعالى يقول:{ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ } ([11]).
ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم يقول: «تفكُّر ساعة خيرٌ من عِبادَةِ سنة»([12]).
تفكُّر ساعةٍ في عظمةِ الله ونعَمِهِ وخلقِهِ وكونِهِ، يدفعُ المرء إلى الأمام سواءٌ في حياته الرُّوحيّة أو الماديّة أو العلميّة، مِمَّا يُحيي قلبه وروحه وينوِّر عقله، فيعودُ عليه علماً وطمأنينةً وراحَةً ويقيناً بأنَّ الله لن يخذله، وبقدرِ صدقه وتوجُّهه ترشَحُ إليه لطائفُ من صفات الله فتلفُّهُ السكينة والسعادة والبصيرة في كلِّ أمر.
قالت بسرعة: كيف…؟! علميني…!.
نفد صبْرُ مُرافقها الذي كان يُشيرُ إليها بإنهاء الحديث مُدَّعياً تأخُّرهم…
تابَعْتُ -ناظرةً إليها-: إذا جئتنا ثانيةً بلا مواعيد ولا أشغال أعلِّمُكِ ذلك، ولَرُبَّما تُحسِّين الرَّاحة والاطمئنان والسَّلام الذي تبحثين عنه.
وقف مرافقها وصارَ يشدُّها بقوّة دون أيِّ لطفٍ أو تهذيبٍ ويصيحُ بها: هيَّا.. هيَّا تأخَّرنا، بينما هي تسجِّل رقم هاتفي لتعودَ، علَّها حقاً ترتاحُ وتستعيدُ إنسانيّتها التي نسيتها عبْرَ انشغالها وتنافُسِها بأعمالها ودُنياها.
عُدْتُ إلى مجلسِ شيخنا حيث كان باسماً مستبشراً، حدَّثْتُهُ بحديثها وذكرَ له الشيخ بشير الباني -رحمه الله- موقف مُرافقها الذي حاول صرفها عن سماع الحقيقة وتَبَرُّمَهُ بشوقها لتعلُّم العلوم الإلَهِية…
سُعِدَ شيخنا كثيراً، ثُمَّ شبَّك أصابِعَهُ قائلاً: (أما سمعتم “جِسْب” حين قال: “مدارس البنات في بلاد الشَّام بؤبؤ عيني”، عيونُهُم علينا، يراقبوننا في كلِّ أمورنا حتى الخاصَّة فيها، لم يُعجِبْهُم ما نحنُ فيه من سلام وإيمان وسعادة.
إنَّهم يخططون لنا حتى يُفسدوا علينا إسلامنا، ولكنْ مَنْ يَنصُر الله ينصرُهُ الله، أدُّوا ما فرضَهُ الله عليكم من واجبات يُوفِّ الله بوعده وينصركم.
إنهم لا يريدوننا نصارى ولا يُريدون لنا ديناً…!، لأنَّ الإنسان بلا دين حيوانٌ لا يهمُّه سوى بطنِهِ وشهوته.
يريدون أن يستدرجوا أولادنا وبناتنا إلى ما انحدروا إليه من فوضى وتفلُّت وشبق وجريمة وأمراض…!.
صدق الله العظيم: { وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا } ([13])).
وقال وهو يستعدُّ للوقوف: (لا تيأسوا.. اليأس موتٌ وشلل، ولكن ابدؤوا بالعمل، والعطاءُ يستلزم العطاءَ الأكبر من الله).
لا تيأسوا.. اليأس موتٌ وشلل، ولكن ابدؤوا بالعمل
توضَّأنا وصلينا الظُّهر، ثم جلسنا للغداء وهو يَحمَدُ اللهَ، وقال متعجِّباً: (سُبحانَ الله!.. ماذا يريدون أكثر مِمَّا فعلوا ويفعلون بنا؟!.. سبحانه!… هو الملْجَأ وهو المنقذ إذا التجأنا إليه تخطيطاً وعملاً وتضرُّعاً، وأنا متفائلٌ بأنَّ الغدَ سيكونُ بإذنِ الله للإسلام).
([1]) رواه البخاري ومسلم والنسائي وأبو داود وابن ماجة وأحمد.
([2]) رواه أحمد وابن ماجة، وفي رواية لابن ماجة والبيهقي بلفظ: «قتل مسلم ولو بشطر كلمة».
([3]) ابن حبان والطبراني والحاكم عن فضالة بن عبيد رضي الله عنه.
([4]) سورة البقرة، الآية: (190).
([5]) روجيه غارودي: عضو سابق في الحزب الشيوعي الفرنسي، انتقل من الانتماء إلى الكنيسة المسيحية إلى الالتزام بالحزبية الماركسية، ثم انتقل إلى الإيمان بالشهادتين الإسلاميتين، فاعتنق الإسلام عام 1982م عن إيمان فكري عميق بعد أن وضع حداً لخلافاته مع الحزب الشيوعي بإصدار كتاب “الحقيقة كلها” وفُصِل من الحزب على أثر صدور هذا الكتاب، وله مؤلفات كثيرة عن الإسلام منها: وعود الإسلام، الإسلام وأزمة الغرب، فلسطين أرض الرسالات السماوية، المساجد مرآة الإسلام.
([6]) سورة البقرة، الآية: (256).
([7]) سورة الكهف، الآية: (29).
([8]) سورة يونس، الآية: (99).
([9]) أخرجه أحمد والترمذي عن أبي نضرة، وقال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح.
([10]) متفق عليه.
([11]) سورة الرعد، الآية: (28).
([12]) أخرجه ابن حبان في كتاب العظمة من حديث أبي هريرة بلفظ ستين سنة بإسناد ضعيف.
([13]) سورة النساء، الآية: (27).