لنعمل الممكن حتى نصل إلى المشتهى
في صباح ربيعي جميل استيقظ شيخنا نشيطاً.
ناداني، فأسرعت إليه أجيبه بأحلى الكلمات، وأنا أحمل له كأس الشـاي الأخضر المفضل لديه.
نظر إليَّ راضياً مبتسماً وهو يقول:
(الله يرضى عليك، ماذا تفعلين؟).
قلت له: عندي أخواتي الداعيات وقد أنهينا جلسة الذكر، وكنا نتذاكر محاضرة الجمعة الفائتة ووصلنا لقولك: (لنعمل الممكن حتى نصل إلى المشتهى،
سنة التدرج سنة الكون، وإلاَّ نضيِّع الممكن والمشتهى ونتحسّر على فوات كل شيء).
سُرَّ كثيراً وقال متفائلاً: (جعلكِ الله غيثاً أينما حللتِ، نبت بك الزرع وأثمر).
أجبته بحبور: اللهم آمين حتى ترضى عني دائماً.
فقال: (الحمد لله، { وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ } ([1])). ثم قام فتوضأ وصلى الضحى، ثم ألبسته ثيابه حتى نتمشَّى سوية في المزرعة.
تهيأت الأخوات للعودة فقد كنَّ مستعجلات، ولكنهن عندما علمن بعزم شيخنا على التَّجول في المزرعة تباطأن لعلهن يحظين بنصيحة منه أو تحية.
جلست وشيخنا على الكرسي بعد أن مشينا قليلاً، ثم ناداهنَّ ليأتين إليه.
تحلَّقْنَ حوله، وكان سعيداً بهنّ ثم بادرهنّ قائلاً:
(قولوا آمين).
فقلن بحبور: آمين.
فقال: (حقق الله أملي فيكنَّ حتى تكنَّ نوراً لأنفسكن ولغيركن).
صمت قليلاً ثم تابع:
(يا بنتي زارع الفل لا يجني شوكاً.
يقول ذو الجلال والإكرام: { وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا}([2]).
وفي الأثر: «الناس هلكى إلا العالمين، والعالمون هلكى إلا العاملين، والعاملون هلكى إلا المخلصين، والمخلصون على خطر عظيم»).
أغمض عينيه وقد فاض وجهه نوراً وقال:
(المعاملة مع الله، والله لا يُخدع ولا ينخدع.
المعاملة مع الله، والله لا يُخدع ولا ينخدع
ثم نظر إليهن واحدة واحدة وتابع:
يقف القطار في محطات كثيرة، فلا تدعي قطار العمر يتوقف بك إلا في آخر محطة وقد ملأته بالأعمال الصالحة.
تُرى ما هو وزنك عند الله قبل أن تأتي المحطة الأخيرة؟
هل تزكيت؟
أين المربي؟
المهم قلب مملوء بنور الله وذكره، وعقل يفقه حكمة القرآن والعمل بها، عندها تنطلق شرارة الدعوة وينبثق الإسلام شمساً تضيء وتدفئ المجتمع.
قلبي مملوء رجاء أن يكون هذا القرن هو قرن الإسلام.
اِلْزَمْنَ العمل والهمة، ولا تضيعن من أوقاتكن دقيقة واحدة.
بقدر الجد تُكتسب المعالي ومن طلب العلا سهر الليالي
المسلم أينما وجد يتحول مجلسه إلى جامع، يجمع قلوب من حوله على محبة الله ورضاه.
المسلم أينما وجد يتحول مجلسه إلى جامع، يجمع قلوب من حوله على محبة الله
يقول تعالى: { وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ } ([3])؛ كل حركة من حركاته يحسب حساب الله خاصةً عندما يزين له الشيطانُ السوءَ حسناً).
حاولت الأخوات أن يغادرنه حتى لا يتعب فقلن له: اُدعُ لنا يا شيخنا.
فقال: (اسألن الله التوفيق؛ التوفيق يجعل المرَّ حلواً، والبعيد قريباً، والمكروه لنفسك محبوباً لها… واستعذن بالله من العُجب، العُجب يُحبط العمل، والكِبر أن تتكبر على الآخرين: أنا فلان، أنا فلانة! يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة من كبر»([4])، والله لو تقصدون الله كما تقصدون دنياكم لصرتم عظماء.
والله لو تقصدون الله كما تقصدون دنياكم لصرتم عظماء
إيمانك ودينك هو الأساس في الدنيا والآخرة.
العرب ما حُرموا الوصول إلا بإهمالهم وتركهم للأصول، وهي العلم والتزكية والحكمة).
ثم تابع بحزن:
(إذا فُقد الأصل فأي فائدة في الفروع؟
إذا فقدت الشجرة جذورها فأي فائدة وأي حياة في فروعها؟
إذا فقدت الشجرة جذورها فأي فائدة وأي حياة في فروعها؟
قانون الله أن تبذري وتسقي وتعتني فتحصدي ما تشتهين؛ ولكن الذي يخالف قانون الله والطبيعة لن يصل إلى ما يشتهي.
بقدر الكدّ تكسب المعالي.
ولكن ما الذي يمنعك؟… ما الحاجز؟…).
نظر متسائلاً: (هواك وأناك؟
إذا استجبت تَرْبَحي الدنيا والآخرة.
يقول الله تعالى: { إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ } ([5]).
عمارة المسجد ليست عمارة الجدران والبلوك، ولكن عمارة المسجد الحقيقة هي المعلم، وهو روح المسجد وأساسه، وثمرة التعليم بناء الإسلام.
يُعمَّر المسجد ببناء الإنسان المؤمن الحقيقي. الحل هو استعمال مخطط الله الذي نزل به القرآن الكريم.
إذا أردتِ يحصل المراد، وإذا لم تريدي لا يحصل… الإرادة الدخول في العمل بالعزم والتصميم).
ثم نظر إلي باسماً: (يا بنتي أهم شيء الحب؛ الحب طريق التغيير إلى الأعلى وإلى الأسفل.
إذا أحببت العظيم وذكرت العظيم يكون التغيير إلى الأرقى والأسمى؛ ذكر الله طاقة تزودك بقدرات غير محدودة للتحليق والتفوق على النفس.
إذا أحببت العظيم وذكرت العظيم يكون التغيير إلى الأرقى والأسمى
أما إذا أحببت إنساناً ناقصاً فاسقاً فسينْزِل بك إلى أسفل السافلين.
حبُّ اللهِ هو الإيمان الذي يجعل إرادة الأطفال إرادة الأبطال، يرون جبال المصاعب كالسراب فيخترقونها ولا يرونها، هذه ثمرات الحب.
ذكر الله طاقة تزودك بقدرات غير محدودة للتحليق والتفوق على النفس
ثمرات حب الله أن تتفقدي إيمانك، أن تتفقدي الثمرات، يجب أن تكون حقيقة لا سراباً لا أصل لها ولا وجود… كلما كان المرء عظيماً كانت همته عظيمةً سامية).
صمت قليلاً ثم تابع بصوت متهدج:
(أنتن مؤتمنات). ورفع يديه داعياً: (أسأل الله أن يعطيني من الوقت لأتابع العمل الإسلامي.
الإيمان روح… الإنسان بلا إيمان جثة، الإنسان بلا إيمان ميت العزيمة، ميت الإرادة، ميت العمل، ميت الإنتاج.
الإنسان بلا إيمان ميت العزيمة، ميت الإرادة، ميت العمل، ميت الإنتاج
الإيمان روح… الإنسان بلا إيمان جثة
لعب، أكل، شرب، تناسل، مثل البراغيث والذباب.
الجامع موضع التعليم، كان الجامع المدرسة الأولى للصحابة، والرسول الهادي هو المعلم الأول… العلم لخدمة حياتنا وحياة الآخرين لإصلاحهم وتعليمهم والدفاع عنهم.
نحن الآن في صحراء؛ ليس فيها دليل!.
شمال جنوب شرق لا يعرف أين يتجه.
المهم أن يكون لديك الإرادة، ولكن إرادة بدون عمل هذه أمنية).
وعلا صوته قائلاً:
(الإرادة تثمر العمل بالتخطيط والتصميم.
إذا تمنى ولم يعمل، فهو يضحك على نفسه.
الأمنية: يريد ولا يعمل بالأسباب لتتحقق أمنيته.
إذا صدق يسبق الذي سبق، العبرة لمن صدق لا لمن سبق).
صمت قليلاً ثم قال ناصحاً:
(يجب ألا يعمينا المشتهى عن التدرج بالممكن.
التدرج والاستمرار سنة الكون، البذرة لا تكون شجرة إلا بالتدرج والاستمرار، والولد لا يكون في شهر واحد أو شهرين.
وانتبهوا للسوس من أول ثغرة حتى لا يكبر الأمر وتكون معالجته صعبة).
توقف شيخنا برهة ثم سألهن عن مستوى تعليمهن وعن حضورهن لمجالس العلم والذكر ثم قال: (العلم والقراءة لا يصنعان داعية، الذي يبني شخصية الداعية الحب والذكر؛ لأن الحب يربط بين المتحابين، ونتيجة الربط تختلف بحسب من يرتبط به الإنسان.
العلم والقراءة لا يصنعان داعية، الذي يبني شخصية الداعية الحب والذكر
يقول الرسول الكريم: «فلينظر أحدكم من يخالل»([6])، المهم الإخلاص.. والإخلاص مع الوعي.. بدون وعي قد يكون ضرراً وخطراً.
الاتجاه إلى الله بكل طاقتنا، والاتجاه إلى القلب بكل قدرتنا ليعطيه نشاطاً فيكونَ هو الذاكر الحقيقي.
نجاهد أنفسنا بكل قلوبنا ونعمل قدرتنا وننتظر الفيض من الله عند ذلك يُفاض علينا من الأنوار والعلم والحكمة.
يقول الله في الحديث القدسي: «أنا جليس من ذكرني…»([7])، من يجالس الله بقلبه وحواسه يُفيض الله عليه من العلوم والسعادة التي لا يعرفها إلا من ذاقها، هذا روح كل الأديان الإلهية). وتابع بقوة: (العبادات قالَب، وذكر الله هو القلب والروح.
العبادات قالَب، وذكر الله هو القلب والروح
السلام يبدأ من القلب والحرب تبدأ من القلب).
ثم نظر إليهنَّ آملاً: (قلبُكِ أرضكِ؛ ازرعي فيها ما تشائين لتحصدي ما تشائين.
كل قفل له مفتاحه الخاص؛ ولا تفتح كل الأبواب بمفتاح واحد.
الحكمة أن تخاطب الناس على قدر عقولهم؛ وبالحكمة والحب تُفتح كل الأبواب).
الحكمة أن تخاطب الناس على قدر عقولهم؛ وبالحكمة والحب تُفتح كل الأبواب
تهيأت الأخوات للذهاب، وقد مُلئن سعادةً وحبوراً وهن يدعون له بطول العمر والشفاء.
فقال خاتماً حديثه:
(لا أريد دعاءكن فقط، أريد عملكن أولاً).
([2]) سورة الأعراف، الآية: (58).
([3]) سورة التوبة، الآية: (18).
([4]) مسند الإمام أحمد بن حنبل، عن ابن مسعود رضي الله عنه.
([5]) سورة التوبة، الآية: (18).
([6]) سنن أبي داود، عن أبي هريرة رضي الله عنه.
([7]) رواه الديلمي عن عائشة، والبيهقي في الشعب عن أبي بن كعب، ورواه الحاكم وصححه.