مدرسة الله
بعد حوادث العراق طلب السفير البريطاني موعداً من سماحة الشيخ، وكان له ذلك.
ولما حان اللقاء وجاء السفير، استقبله سماحته في غرفة الضيوف.
كان السفير رجلاً أشيب الرأس طويل القامة.
دخل بصلف وسلم على شيخنا وعلى الحضور بلباقة وجلس وأسند ظهره جيداً ولف ساقاً على ساق ونظر إلى شيخنا بتعالٍ وكأنه يقول له:
وأنت ماذا عندك؟
رحب به شيخنا بلطف زائد.
بدأ الأستاذ فاروق مترجم شيخنا الحديث قائلاً أن السفير يفهم العربية لأنه درسها في مصر، وهو يستطيع أن يتكلمها ولكن بصعوبة.
قال شيخنا متوجهاً إليه: (لغات الإنسان كثيرة… ولغات الحيوان أكثر)، ثم نظر إلينا متسائلاً:
(كم لغة للحيوان يا ترى؟).
ضحكنا جميعاً، ولكنه تابع بقوة وهو ينظر في عيني السفير بثبات: (ما أحوج إنسان هذا العصر أن يتعلم اللغة الإنسانية، لغة الحب الإنساني، لغة حب الإنسان للإنسان، والمهم أن يفهمها الإنسان ويتخلق بها).
ما أحوج إنسان هذا العصر أن يتعلم اللغة الإنسانية، لغة الحب الإنساني
كنا سعداء جداً بالحديث الموجّه، وكنت أنظر إلى شيخنا بحنان، ثم نظرت إلى السفير فإذا به قد اعتدل في جلسته وأنزل ساقه وبدا الاهتمام على وجهه…
تابع شيخنا باسماً: (لا يمكن للإنسان أن يفهم اللغة الإنسانية إلا إذا خرج من الأنا إلى نحن، ولا يكون ذلك إلا إذا دخل مدرسة الأنبياء، مدرسة الله التي يعبر عنها بالدين من غير أن يختلف أحدهما عن الآخر لأنهم جميعاً تخرجوا من مدرسة واحدة).
لا يمكن للإنسان أن يفهم اللغة الإنسانية إلا إذا خرج من الأنا إلى نحن
انحنى السفير وبدا وجهه جدياً متفكراً، وتابع شيخنا وهو يهز رأسه: (والغاية أن يألف الإنسان الإنسان وينفع الإنسان الإنسان ويتعاون الإنسان مع الإنسان، وهذه التعاليم واضحة مثل النهار في الكتب المقدسة كلها، ألا يقول المسيح عليه السلام: “من ضربك على خدك الأيمن فأدر له خدك الأيسر؟” نحن نُضرب الآن على الخد الأيمن، ثم الأيسر، ثم على الرأس، فهل من يفعل ذلك بنا قد آمن بالمسيح أو يفعله بتعاليم المسيح؟).
حاول السفير أن يقول شيئاً ولكن شيخنا تابع بهدوء: (بالتقدم العلمي نسينا التقدم الروحي والأخلاقي، بقدر ما ترتقي الحضارة وتقنيتها بقدر ما تهوي الأرواح والإنسانية في حمأة الرذيلة وظلام المادة والظلم والتعدي، وهذه أول هزائم الحضارة الحديثة.
بالتقدم العلمي نسينا التقدم الروحي والأخلاقي
الإيمان كله حكمة، والحكمة معالجة العقل والرقي به، الحكمة أن تعمل ما ينفع نفسك وينفع الآخرين من حولك
العلم لا يفيد بلا إيمان، الهوى يغلب العلم ولكن الإيمان يغلب الهوى.
العلم لا يفيد بلا إيمان، الهوى يغلب العلم ولكن الإيمان يغلب الهوى
العلم أثبت ضرر المخدرات والمسكرات، وهو علم بدهي ومع ذلك نرى الإنسان يتعاطاه، أما المؤمن فيمتنع عنه امتثالاً لأمر الله لأنه أيقن بأنه وهبه العقل للإدراك فلماذا يلغيه؟
العلم وحده إذا لم يرافق الإيمان لا يفيد شيئاً.
لقد خدم العلم الإنسانية ولكن الآن مع التخلف الأخلاقي والتخلف الإيماني صار العلم خطراً وصار يؤذي الجميع).
قال السفير بسرعة: فعلاً القضية تحتاج إلى تفكير.
قال شيخنا باسماً: (تدمير البناء والإسمنت بسيط أمام تدمير الإنسان، طبيعة الإنسان، وطبيعة الحياة تقول: إن الضعيف مهما كان ضعيفاً عندما يقع في حالة اليأس لا يبقى في عقله تمييز بين الحلال والحرام، ولا يفكر بأخلاقية عمله أو لا أخلاقيته، وهذا ينطبق على قصة جارنا مع قطه!
فقد كان لجارنا في الحي قط أتعبه، وأراد أن يتخلص منه فحصره في غرفة وأمسك العصا يريد أن يضربه، وعندما لم يجد القط سوى العصا قفز إلى مكان مرتفع في الغرفة وانقضَّ على وجه صاحبه وكاد أن يؤذيه بشدة لولا أن جارنا استغاث بأهله فأنقذوه من القط!).
ضحك السفير وضحك شيخنا الذي تابع: (الشاهد من القصة أن الضعيف مهما كان ضعيفاً يمكنه بوجود هذه الوسائل المدمرة في عصرنا الحاضر أن يأخذ حقه بأية طريقة، ولذلك ربما يلجأ إلى العنف!).
هزَّ السفير رأسه بأسف وقال: هذه هي الحقيقة.
تابع شيخنا: (دعيت إلى مؤتمر البحر الأدرياتيكي حول الدين والعلم والبيئة، ما يهمهم هو تلوث البيئة التي تضر بالجسد، أما فساد البيئة التي تضر بالنفس الإنسانية وتسحقها فأين الاهتمام بها؟!!
فساد البيئة الأخلاقية والإنسانية التي جعلت الإنسان أخطر من كل الوحوش!
كم قتلت السباع منذ بدء الخليقة إلى الآن؟
ما قتله الإنسان من الإنسان أكثر مما قتلته السباع من الإنسان، فالإنسان وحش في أخلاقه وسلوكه، بل أكثر وحشية من الوحوش!
هذه الأسلحة التي صنعها الإنسان القوي استطاع الإنسان الضعيف أن يصل إليها ويدافع بها عن نفسه؛ وعندها سميتم دفاعه عن نفسه وحياته وأولاده إرهاباً!!.
لقد أوجدنا علاج ما يتعلق بالجسد، فأين ما يتعلق بأمراض النفس وطغيانها وعدوانها على الآخرين؟.
صار الإنسان حيواناً لا يعرف إلا متطلبات جسده، وصار شيطاناً، لا يعرف إلا إيذاء الآخرين.
لو وُجدت وسائل الإعلام هذه زمن الأنبياء لوحدوا العالم وجعلوا كل من فيه إخوة وأحباء!.
السلام أن لا يؤذي أحدنا الآخر، أما الإيمان بمعناه الحي والإسلام بمعناه الجامع لكل الأديان فهو أن يُسعد أحدنا كل الآخرين ويقدم لهم ما ينفعهم، بل ويرحمهم ويعطف عليهم، ليس أبناء وطنه فحسب، بل أبناء العالم أجمع، كما يقول رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم: «الخلق كلهم عيال الله، وأحب الخلق إلى الله أنفعهم لعياله»([1]).
الإيمان بمعناه الحي هو أن يُسعد أحدنا كل الآخرين ويقدم لهم ما ينفعهم
جعل الله محبته مكافأة لكل من ينفع خلقه.
أن نعيش جميعاً تحت ظلال التآخي والتراحم والعطف، فلا يكون هناك ظالم ومظلوم، بل إخوة متحابون.
إذا فهمنا تعاليم الله يجب أن نعمل نحو هذه الغاية، يجب أن نجعل القرن الحادي والعشرين قرناً متميزاً في عصر الإنسان كما يحب الله والأنبياء.
هنالك نكون قد تقدمنا تقدماً كبيراً، تقدماً إنسانياً حقيقياً.
فليعمل كل واحد منا في حدود طاقته لتحقيق هذا الهدف وإلا فسيحل الدمار بنا جميعاً وسنقود العالم إلى كارثة وقيامة لن ينجو منها أحد).
قال السفير بحذر: أنت تعرف أن هذا التفكير الإيماني لا يملكه الكثير من العرب والمسلمين ولا يتعاملون به.
قال شيخنا وهو يجمع أصابعه محاولاً بلطف إقناع جليسه: (الإحباط الذي تلحظه في عقل الإنسان العربي والمسلم سببه غياب الأمل في انفراج الأمور مما أدى لليأس والانفجار، المشكلة تكمن في الوصول، وطريق الوصول إلى الحل).
قال السفير بسرعة وكأنه يريد أن يفرغ قناعاته: التخلص من الإرهاب هو الحل.
قال شيخنا بنفاد صبر: (استعمال كلمة إرهاب تزيد المشكلة ولا تحلّها، يجب أن نقول العدوان، بل العدوان هو أصعب وأخطر، وهو ما يحصل من القوي تجاه الضعيف.
دفاع المعتدى عليه نسميه إرهاباً، واعتداء الظالم نسميه تقدماً وتحضراً؟!!!).
ضحك شيخنا قليلاً ثم تابع بحدة: (العدل هو الذي يقضي على العدوان والإرهاب، والإسلام أمر بالعدل والإحسان، العدل أن تعاقب المعتدي بما يستحقه وليس معاقبة كل الناس.
السلام من أسماء الله تعالى، والله يأمر بالسلام، وإفشاء السلام، وتحية المسلم: السلام عليكم، يعني يمد يده للسلام والأمان، هذه تعاليم السماء من عند خالق الأكوان).
انحنى شيخنا إلى الأمام ونظر إلى محدثه ثم تابع: (يجب على الآخرين أن يدرسوا الإسلام دراسة صادقة جدية، دراسة واقعية عقلانية لكي يعرفوا الإسلام على حقيقته ولكي يطبقوا تعاليم الله بحقيقتها.
إن العودة إلى الإيمان توفر علينا المليارات، وتوفر علينا الوقت الغالي، وتبعدنا جميعاً عن كل الكوارث التي تجرها الحروب والأنانيات.
صارت المعجزات بيد إنسان هذا العصر.
الأنبياء تكلموا بلغة العقل والمنطق والعطف والحب لكل إنسان، الإيمان العقلاني المقنع هو دواءٌ للحروب وتوفير للميزانيات الحربية، فلو أنفقت تلك الأموال على الفقراء والجهلاء والمرضى لصار الإنسان إنساناً حقيقياً ولكانت حياتنا على هذا الكوكب جنة حقيقية ولكافأنا الله بعدها بجنة الأبد.
ما يحدث الآن هو أكثر وحشية من الوحوش، هل مات الضمير الإنساني؟.
هل تحوَّل الإنسان إلى حجر لا يتأثر بآلام المعذَّبين؟
لا يهمه مستقبل الإنسان مع هذا التقدم العلمي الذي استعملناه للشر ولتدمير الإنسان.
أول آية نزلت على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم: }إقرأ{([2]) يعني تعلّم)، صمت شيخنا قليلاً ثم قال: (كم تسعد الإنسانية عندما تأخذ العلم بكافة جوانبه.
أول آية نزلت على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم: (إقرأ) يعني تعلّم
نحن بحاجة لِنَعْرِفْ ونُعَرِّفْ بتعاليم الله العظيم، وهذا أقرب الوسائل وأسهلها لتحقيق إنسانية الإنسان، ولن يتحقق السلام -وهو يخدم المصالح الاستعمارية- إلا إذا حققنا الإيمان الحقيقي، عندها سيتحقق الإخاء والحب والرحمة، وكما يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد اذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى»([3]).
الإرهاب شجرة، ولا يكفي أن نقطع غصناً واحداً منها لنجتثها، بل يجب اجتثاث الشجرة بكاملها.
هذه كلها رشحات من قضية فلسطين، الفلسطينيون الذين اُحتلت أراضيهم من خمسين عاماً، وقتل أهلهم وأطفالهم رغم وجود مجلس الأمن، وهيئة الأمم المتحدة الذين شُلّوا من قبل أن يُوجَدوا.
إذا لم يُوجد العدل فلن يكون السلام مهما كان الجانب الآخر ضعيفاً.
حقاً وصل الإنسان إلى القمر، ولكنه لم يصل إلى العدل والرحمة، هذا تشويه لدين الله، حضارتنا مشوّهة الآن.
علينا أن نجدَّ ونعمل كلٌّ في حدود طاقته، ولا حدود لطاقة الإنسان إذا أراد.
في الأمثال: “شرارة تحرق حارة” فلنكن تلك الشرارة لنحرق الشر من جذوره.
ويقال: “جرثومة قد تفتك بمدينة” لذلك يجب أن لا نحتقر الشر والعدوان مهما كان قليلاً، فعلى ضوء ما وصل لأيدي الإنسان من الأسلحة الفتاكة يمكن للأمور أن تتأزم ويحل البلاء بالجميع.
الطريق واضح، ولكن هل نريد؟).
كرر شيخنا بهدوء:
(هل نريد بكل قلوبنا أن نصل إلى طريق النجاة؟.
إذا أردنا وصدقنا وصلنا.
بيدنا كل شيء ولكن الحقيقة أننا لا نريد الحق!
ونريد أن نستر الشمس برغيف!
قد نسترها عن أعيننا حتى لا نراها ولكن ذلك لن يُعدم وجود الشمس؟… القضية معقدة كثيراً إذا لم نُرِد، وسهلة جداً إذا أردنا).
قال السفير مرتبكاً ومتأثراً: رجال السياسة يتقنون لغة مختلفة عن لغة رجال الأديان، ولكن أرجو أن نصل جميعاً للغاية المشتركة النبيلة.
فردّ شيخنا: (إذا عدنا إلى ضمائرنا لا اختلاف، لأن رسولنا الكريم يقول: «استفت قلبك ولو أفتاك المفتون»([4])… ولكن أي قلب؟
المجرم إذا برأته المحكمة، ولو أعلنت الصحف أنه بريء، هل يصدق في قرارة نفسه أنه بريء؟
أرجو أن يُلهَم الجميع خدمة الإنسان والإنسانية بما ملّكهم الله من قوة وسلطان، ولا بد يوماً ما من فراق ذلك الجسد ولقاء الله، وعندها لن يكون لنا سوى أعمالنا، وحساب الله لنا ينتظرنا، ومصيرنا الأبدي نصنعه بأيدينا).
انحنى السفير باحترام شديد -لشدة ما تغير وجهه ولانت ملامحه المتصلبة- وقال هو يتأهب للوقوف:
كانت زيارة قصيرة، وأرجو أن تكون مثمرة.
ردَّ شيخنا: (يسرني تعرّفي عليكم، ويجب أن يتفهم كل واحد منا الآخر، كان هناك اختلاف في الرأي، ولكن أرجو أن تصبح الغاية الأخيرة واحدة، وأن يكون إجماعنا لإنقاذ العالم والإنسانية، وهو إنقاذ لنا جميعاً).
قال السفير: شكراً لكم.. سررت بزيارتكم.. لم أكن أتوقع ما سمعته، ولكن أنتم في الطريق الصحيح، شكراً لكم.. لقد غابت تلك الحقائق عن ضمائرنا.
أكرر أسفي واحترامي وشكري لكم.
([1]) المعجم الكبير للطبراني، عن عبد الله بن عباس رضي الله عنه.
([3]) رواه البخاري (الأدب: 6101)، ومسلم (البر والصلة: 2586) عن النعمان بن بشير رضي الله عنه.