التصوف كان دواء فجعلوه داءً وكسلاً
صيف 1996
وصلنا الخرطوم عاصمة السودان الشقيق في وقت متأخر من الليل كان الجو حاراً جداً، والتعب قد بلغ منا مبلغاً وبينما نحن في الانتظار في بهو الفندق سمعنا أحد علمائنا يقول للعالم الإيراني آية الله محمد علي تسخيري الأمين العام للمجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية:
عندكم الرضاع يتم التحريم باثنتي عشرة رضعة وعندنا الشافعي بعده رضعات وكرر عندنا وعندكم.
استثارت تلك الكلمات نظر شيخنا متعجباً من نوعية الحديث بدلاً من كلمات الود والترحيب. قلت لشيخنا في المصعد: ما شاء الله هل هذا حديث التقريب والتوحيد؟!
فقال آسفاً: يا بنتي هذه بضاعتهم وليس عندهم غيرها، فالكثير من الخلافات السياسية اليوم تعود إلى أسباب مذهبية حتى أنّ بعض الفقهاء يقوم بكل أسف بإذكاء نار هذه القطيعة وتوفير المبررات والحجج التي تكرس ذلك وتحول دون الوفاق بين آراء الناس.
صلينا العشاء والمغرب وما لبثنا أن نمنا سريعاً، كانت شرفات الفندق تطل على أرض شبه صحراوية وضحت مع إشراقة الصباح، تناولنا الفطور ثم تمشيت قليلاً بينما كان شيخنا في قيلولة قصيرة، حاولت استطلاع المكان، الطريق مقفر، والأرض بور، لا زراعة ولا أشجار إلا ما نذر مع أن نهر النيل يتدفق والفلاحون يفترشون الأرض على دفتيه ينشدون مواويلاً صوفية مستمتعين بصوت مياه النهر الذي كان يستنهضهم للعمل ولكن لا مجيب؟!
عدت إلى الفندق وذكرت ذلك لشيخنا. هز رأسه أسفاً قائلاً: لا بد من إعادة العمل الصوفي حسب المنهاج القرآني الكريم والسنة النبوية، فليس التصوف إلا تزكية للنفس مع العمل بفقه الحياة والحكمة لبناء مجد الأمة الإسلامية وقوتها ثم توجهنا إلى مدرج المؤتمرات حيث وصلنا ظهراً، وبدأت المحاضرات من المدعوين وأثناء إلقاء إحداها دوّى صوت في المدرج، وإذا به شاب قصير نحيل شديد السمرة يقفز من أعلى المدرج إلى مقعد شيخنا رحمه الله قريباً من المنصة وهو يتراقص وينادي الله الله الله.
دهش الجميع لمرآه وغرابة صوته. وقابله شيخنا بابتسامة هادئة عندها قال الشيخ بشير الباني رحمه الله:
“والله يا شيخنا كان هذا حالنا ولولاكم لبقينا على هذا فإن العزلة والخلوة والذكر والكشوف والأحوال حال لذيذٌ حقاً بعيداً عن الناس والمشاكل ولكنك قلت لنا: ليس هذا كل شيء في الدين، وليس لهذا خلقنا، وليست تلك مهمة الأنبياء والمؤمنين {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ }([1]).
و{ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ }([2]).
الذكر والأذكار والخلوات طاقة روحانية لنحِبَّ الله حقاً ونحبِّب الخلق به وننطلق إلى العمل وإعمار الكون والدعوة إلى الله.
ردد شيخنا مؤكداً: يا بني الذكر مدرسة لمعرفة الله فامتثال أوامره عشقاً وتلذذاً، ولمعرفة حقيقة كل أمر لتصبح غايته واضحة لرفع الغشاوة عن القلب وإيصال نور الله وعظمته وهيبته، ليكون لنا محبة الله الحقيقية التي توصل للخضوع القلبي لأوامر الله قبل الخضوع الجسدي.
الذكر مدرسة لمعرفة الله فامتثال أوامره عشقاً وتلذذاً
نفدت تلك الكلمات أسماع بعض الحضور فتحلقوا حوله لسماعه فأكمل قائلاً:
أهل التصوف اشتغلوا بإسلام الروح وسكروا بنعيمه حتى غابت جوانب الإسلام الأخرى، تركوا أمور الحياة باسم الزهد، وغفلوا باسم التوكل عن الأسباب والمسببات، تركوا عقولهم وواجباتهم وما أراد الله لهم لتعمير الكون والحياة فتخلفوا وضعفوا وصاروا على الحال الذي هم عليه، فهل هكذا تعامل العرب الأول مع الخطاب القرآني؟
منهاج القرآن جمع خيري الدنيا والآخرة فكانت لهم نقلة الحضارة في دينهم ودنياهم، فالقلب للتزكية والعقل للحكمة والجسد للعمل والبناء، وهذا هو جوهر التصوف، يقول الله تعالى واصفاً المؤمنين الحقيقيين:
{ رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ }([3]).
لم يقل لا يتاجرون ولا يعملون بل قال:
إنهم في تجارتهم هم مع الله في بيعهم مع الله يتذكرون الله ويراعون حدوده، راقبوه عشقاً وخضوعاً وعملاً وتعميراً وبناءً دعوا إلى الله بحالهم قبل قالهم فكانوا يؤثِّرون في كلِّ من حولهم، فقاموا وفتحوا العالم وملؤوا الدنيا علماً وحضارةً، ترجموا كتب الحضارات الأولى واستمدوا منها ما يوافق إيمانهم.
منهاج القرآن جمع خيري الدنيا والآخرة
علَّق أحد الدعاة السودانيين: نحن في السودان التصوف خرب علينا، قال شيخنا رحمه الله: ليس التصوف بل عدم فقه جوهر التَّصوف وغايته كان دواء فجعلوه داءً، جعلوه هلاكاً وكسلاً وخمولاً، وقفوا عند القلوب وعند الحياة الروحية، لم يكملوا مدرسة القرآن، كرامات وروحانيات وغيبيات، لا فاعلين ولا متفاعلين ولا عاملين، ظلموا أنفسهم وظلموا الإسلام فصاروا في آخر الأمم.
جاء أحدهم بكأس عصير لشيخنا رحمه الله فتابع شيخنا وهو يحمل الكأس:
يا بني الإيمان الحي القلبي لا يمكن أن يتخلف عن العمل الصالح النافع للمجتمع، الإيمان الحي خلق حسن، وكلمة بالغة، ودعوة إلى الله، وكله تقدم للمجتمع وإصلاح للبشرية.
انتهى الحفل وسار مع شيخنا مجموعة من الدعاة والعلماء.
فقال شيخنا: أقوى قوة قوةُ الفهم افهموا زمانكم ومكانكم وإمكانكم، بناء الأمم له وسائله القلبية والروحية والعقلية والعلمية والصناعية والأخلاقية واتصال بالله في كل نفس من الأنفاس نحن مأمورون أن نفعل الممكن حتى ننجح، المؤمن الحق هو من يلهمه الله مبكراً أن لا ينفق عمره فيما لا يستحق قال تعالى عن سيدنا إبراهيم { وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ }([4]) إني ذاهب الهداية والحكمة لا تنزل عليك وأنت نام لأن حياة الروح حياة للعقل والهمة فاسعَ لها لتنالها، وكل ما خرج عن الحكمة والعمل والجد خرج عن التطبيق الإسلامي، وفي دائرة ما نستطيع حدود القدرة نحن نوسعها ونحن قد نشلّها.
المؤمن الحق هو من يلهمه الله مبكراً أن لا ينفق عمره فيما لا يستحق
وصلنا الفندق وقد وقفت مجموعة من السودانيين ينشدون ويتمايلون فقال شيخنا: لا نريد أحوالاً نريد أعمالاً هذه كلها حقن تخدير تلهينا عن الواقع الأليم الذي نعيشه، وعن استثمار مواردنا وكنوزنا، الإيمان والإحسان عملان لتحمل مسؤولية الإسلام المسلم أمة يصنع العقول والقلوب والهمم ويبني كيان الأمة الديني والدنيوي.
المسلم أمة يصنع العقول والقلوب والهمم ويبني كيان الأمة الديني والدنيوي
سلم الصحب المرافق على شيخنا ودخل كل غرفته.
([1]) سورة النور، الآية: (54).
([2]) سورة الأحزاب، الآية: (21).