يبني الرجال
بسم الله الرحمن الرحيم
في بيت متواضع في حيِّ الزينبية على سفح جبل قاسيون وُلِدَ الشَّيخ أحمد كفتارو (1330هـ ـ 1910م) فتعهَّدَهُ والده الشيخ محمد أمين بالتربية الرُّوحيَّةِ. وقام بتدريسه العلوم الشرعية ثم أرسله إلى خيرَةِ علماء الشام، وقد أجازه شيوخه بتدريسه علوم الشريعة والتزكية والتربية والدعوة والإرشاد.
وبعد وفاة الشيخ محمد أمين كفتارو عام 1938م، تولى الشيخ أحمد مهام الإرشاد والتربية والدعوة إلى الله على منهج والده وشيخه.
أسس جماعة الأنصار الإسلامية التي لعبت دوراً في احتضان الصّحوة الإسلامية وترشيدها في سوريا.
انتُخِبَ مفتياً عاماً للجمهورية العربية السورية عام 1964م، وشارك في الكثير من المؤتمرات الإسلامية.
واختير عضواً للمجلس المركزي لمنظمة الدعوة الإسلامية العالمية في إندونيسيا، وعضو مؤتمر العالم الإسلامي في باكستان، وعضو مجمع التقريب بين المذاهب في إيران، وعضو المؤتمر الشعبي العربي الإسلامي في السودان وعضو المجلس العربي الإسلامي للدعوة والإغاثة في مصر، وعضو القيادة الإسلامية الشعبية في ليبيا.
افتتح مجمع أبي النور الإسلامي عام 1975م والذي يضم معهداً للذكور والإناث، وكلية للدعوة الإسلامية وكلية أصول الدين وقسم للدراسات العليا ومعهداً لتعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها، ومركزاً لكفالة الأيتام، ويُعَدُّ المجمع أيضاً مركزاً لتحفيظ القرآن الكريم.
تخرج من المجمع المئات من حملة الشهادات الشرعية المتخصصة، ومنهم أعلام في الفكر والدعوة يُشار إليهم بالبنان بما يتميَّزون به من علم وحِكمةٍ وتزكيةٍ، ولهم وجود على الساحة العلمية والإعلامية.
كان -رحمه الله- يُقيم محاضرةً أسبوعية يحضُرها أكثر من خمسة عشر ألفاً من الذكور والإناث، من كافة شرائح المجتمع السوري، ويتم تسجيلها بالصوت والصورة، كما وتنقل إلى العالم عبر شبكة الإنترنيت.
واعتمد الشيخ في محاضراته على تفسير كتاب الله عز وجل المشروح بالسنة الصحيحة لكونه أساس النجاح للمسلمين.
وكان من خلال تدبر القرآن، وفهم السنة ينطلق في ساحات واسعة من تشخيص أمراض النفس، وأمراض المجتمع، ومعالجتها، وتربية الدعاة والعلماء.
كما تتميز مدرسته بالتركيز على تزكية النفس وإحياء القلب بذكر الله ويقوم بتوجيه تلامذته باستمرار الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة ويقول لهم: (الداعية الحق إلى الله طبيب لا قاض).
الداعية الحق إلى الله طبيب لا قاض
قام الشيخ أحمد كفتارو برحلات دعوية وأسفار كثيرة بلغت ما يقارب مئتي رحلة لإبلاغ رسالة الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها وقام باستقبال مئات الوفود الأجنبية والإسلامية، وكان يؤكد في دعوته على عالمية الإسلام قولاً وعملاً واشتهر عنه قوله: (القرن الواحد والعشرون قرنُ الإسلام).
عُرِفَ الشيخ أحمد كفتارو بأنه رجل الحوار حيث حاور الملحدين وعرض الإسلام بحقيقته وجوهره فاستحسن كثير ممن حاورهم الإسلام، كما حاور المسيحيين على اختلاف طوائفهم حوار دعوة وتعايش، كما فتح باب الحوار الإسلامي لإعادة ترتيب البيت الإسلامي من الداخل.
وقد لقيت أفكارُ الشيخ كفتارو ومنهجه التجديدي إعجاب الهيئات الإسلامية والعالمية وكبار الشخصيات في العالم، حيث قام مؤسس الباكستان الرئيس أيوب خان بتقليده وسام نجمة باكستان الذهبية عام 1968م.
وقد تم منحَهُ شهادة دكتوراه فخرية في علم الدعوة الإسلامية من جامعة الشريف هداية الله الإسلامية الحكومية في جاكرتا عام 1968م.
وشهادة دكتوراه في علوم أصول الدين والشريعة من جامعة عمر الفاروق في باكستان عام 1948م.
كانت تلك مقدمة تلاها الأستاذ الشيخ بسام الزين في تقديم برنامج لتلفزيون دولة الإمارات العربية المتحدة أواخر عام 2003م.
عندما وصل وفريقه التلفزيوني جلس الشيخ والأستاذ بسام الزين في صالون المزرعة في الطابق العلوي، نظر الأخ بسام إلى شيخنا بسرور قائلاً:
حيَّاك اللهُ سيِّدي وأطال لنا في عمرك، منذ زمن تتوق نفسي لهذه الجلسة حتى أذن الله أن ألقاكم في هذا المكان الذي له في نفسي ذكريات كثيرة فمرحباً بك في هذا اللقاء…
(الله يرضى عليك رضاءً لا سخط بعده).
– سيدي دعني أبدأ أولاً بسؤال طرحه كثيرون:
فكر نيِّر، وعطاء متميز، تجديد، رجال الفكر كلهم يوثِّقون أفكارهم بمؤلفاتٍ وكتب تُتْرَك تراثاً لمن بعدهم من الأجيال.
سماحة الشيخ أحمد كفتارو لماذا لم يؤلف كتاباً خلال ثمانية عقود من الدعوة إلى الله..؟
(ألف إخواني وأبنائي القلبيون كتباً كثيرة في أعمالي وحياتي ومنهجي، وسجَّلوا كل محاضراتي لكل البلاد التي زرتها، وقد بلغت الكثير والحمد لله، ومن فضل الله تكرَّم الله عليَّ بأبناء قلبيين وروحيين، كل واحد منهم كتاب عملي وانتشروا في مشارق الأرض ومغاربها من اليابان إلى أمريكا وكلهم يقومون بالدعوة إلى الله ومحاضراتنا مسجلة في وسائل التسجيل كالإنترنيت وأمثالها، وهذا خيرٌ من التأليف والكتب).
– يعني بناء شخصية الرجال عندكم وإعطاء الوقت له أولى من أن تجلسوا وتتفرّغوا للتأليف اقتداء بقول الشاعر:
يبني الرجالَ وغيره يبني القرى شتان بين قرى وبين رجال
هزَّ الشيخ رأسه موافقاً مبتسماً…
– سيدي سماحة الشيخ: عُرِفَ الشيخ أحمد كفتارو في الأوساط بأنه رجل الحوار وبالذات في حوار الأديان.
وقد أثار مصطلحُ “حوار الأديان” جدلاً في الأوساط الفكرية فمنهم من يراه بمعنى اندماج الأديان الأخرى ليكون ديناً جديداً يُلغي بعض مبادئ العقيدة الإسلاميَّة.
ومنهم من يراه للتعايش بين أتباع الديانات، ومنهم من يراه للتعاون فيما نتفق عليه من المشترك.. سماحتكم كيف ترون وتنظرون إلى حوار الأديان؟..
(إنَّ حوار الأديان موضوع كبير في القرآن العظيم، ولقد حاور الله عز وجل فيه اليهود والنصارى وحتى المشركين.
وما معنى الدَّعوة إلى الله؟ أن ندعو الأنهار والجبال؟!..
أم نتحاور مع من يجهل تعاليم الله ليكون بها الإنسان الإنساني..
الإنسان الفاضل الذي بذل فلاسفة اليونان لصنعه كلَّ الجهود..
وكما يُروى عن بعض فلاسفتهم أنَّهُ رُؤي يحمل فانوساً في النهار يمشي في الشوارع وهو مُضاء فسألوه: ما هذا العمل؟! فانوس مضاء..! وفي النهار..! أجاب: “أفتش عن الإنسان”.
فالقرآن كله من أجل الإنسان، والإيمان الحقيقي يظهر بطريق الحوار مع من لا يفهم حقيقته.
لذلك الحوار واجب، وكم نقرأ في القرآن الكريم كيف حاور النبيُّ صلى الله عليه وسلم اليهود والنصارى وكيف حاور المشركين مرات ومرات.
وعنوان سورة البقرة هو عنوان معجزة سيدنا موسى وثلاثة أحزاب منها يُذكرُ فيها قصة موسى وبني إسرائيل.
وسورة آل عمران -سورة عائلة المسيح- من آياتها ما يبدأ بولادة مريم وولادة عيسى عليه السلام، فالقرآن جامعٌ لكلِّ ما يسمو بالإنسان تارة بطريق الحوار وأخرى بطريق القصص.
القرآن جامعٌ لكلِّ ما يسمو بالإنسان تارة بطريق الحوار وأخرى بطريق القصص
وقصص الأنبياء كلها حوارٌ مع أقوامهم، ليعرّفونهم بالله العظيم وقدرته، وبالإيمان به وبملائكته ورسله.
تلك الطريقة التي نهجها سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالدعوة إلى الله وكذلك أصحابه من بعده، حتى وصل جيش المسلمين وأسطولهم غرباً إلى شواطئ إسبانيا وشرقاً إلى الصين.. هذا في بضع سنين.
والعرب الآن إذا لم يسلكوا هذا الطريق بصحبة مرشد حقيقي عارف، فسنبقى نتخبَّط فيما نحنُ فيه.
فنسألُ أللهَ أن يتحفنا بنفحةٍ منه تُنقذنا مما نحن فيه).
– فهمت من سماحتكم أن الحوار لتبليغ رسالة الإسلام ولينقاد هذا الإنسان لهذا الدين، لكن كيف توضحون قضية اندماج الإسلام في غيره من العقائد على نحو ما جرى في بعض الدعوات في إندونيسيا أو بعض بلدان العالم الإسلامي؟
ابتسم شيخنا ثم قال وهو يشبك أصابعه:
(الامتزاج أو الالتقاء يختلف باختلاف من يفهمه… فإذا فُهِم على حقيقته القرآنية، فإن الإيمان بوحدة الأديان هي فرض على كل مسلم، لأن مصدرها واحد، والقرآن يحوي كل تلك الأديان كما يقول الله عزَّ وجل في سورة المائدة:
{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} ([1]).
فإذا فهمنا مثل هذه الآية نعرف حقيقة هذا الالتقاء).
– سيدي قمتم بالحوار الإسلامي المسيحي في تاريخ دعوتكم الطويل لأكثر من سبعة عقود في القرن العشرين… يا ترى من خلال حواركم لأتباع مارتن لوثر في ألمانيا والحوار مع البابا يوحنا بولس الثاني في الفاتيكان والحوار مع الكنيسة الشرقية في سوريا والأنطاكية والسريانية وحتى مع الموارنة في لبنان، هذا الكم الهائل من الحوار… ماذا تعتقدون أنكم حققتم من إنجاز في تبليغ رسالة البلاغ المبين الذي تتحدثون عنها إلى العالم المسيحي؟..).
-نظر إليه ملياً ثم قال-:
(أولاً على كلِّ مسلم أن يبلغ الإسلام إلى كل من لا يعرفه، فهذه مهمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمسلمون مأمورون باتِّباع سنة وطريقة رسولهم الكريم، وبهذه الطريقة أوصل سلفنا الصالح الإسلام إلى القارَّات الخمس.
والآن إذا تمَّ التخطيط ووضعت الخريطة الخاصة لتحقيق هذا المعنى بوجود وسائل الإعلام المعاصرة، سنستعيدُ قوتنا بعون الله ونحل الكثير من مشاكلنا المعاصرة. وأملي بالمسؤولين في البلاد العربية والإسلامية أن يقوموا بهذا الواجب، فهم مسؤولون أمام الله عز وجل.
ونحن بمشروعنا الدراسي والتعليمي في كليات مجمعنا ومعاهده جاءنا طلاب من كل أقطار الدنيا، من أوربا وأمريكا واليابان، ليتعلموا الإسلام وهذا من آثار رحلاتي في العالم… فالإسلام كله حركة، والمسلم لا يكون مبنيّاً على السكون أو لا محل له من الإعراب، فالحركة بركة ونماء، وأرجو من الله أن يتحرك المسلم ويتحرك فيه إسلامه ليقوم بأداء الواجب لتبليغ رسالة الإسلام… الغني بماله، والحاكم بسلطانه، وكل مسلم بما يملك من طاقة).
الإسلام كله حركة، والمسلم لا يكون مبنيّاً على السكون أو لا محل له من الإعراب
– سمعت منكم أن البابا يوحنا بولس الثاني قال لكم: “إني أقرأ القرآن كل يوم”، ما معنى هذه العبارة في نظركم فعلاً؟. هل يتعلَّم الإسلام؟ يفهم الإسلام؟ يدرس الإسلام؟ هل هو مسلم حقيقة؟. بماذا تفسِّرون؟ ولماذا نقلتم هذه العبارة لكلِّ الناس؟
أجاب باسماً: (على سبيل المثال: مَن يرى لون هذه العباءة وشكلها هل يستطيع قلبياً وعقلياً أن يُنكر حقيقتها في نفسه؟ مستحيل…! ولو أنكرها لجحدها وما اضطرَّ أن يذكرها.
لذلك نحنُ نعمل ما أمرنا الله به من تبليغ يتوجَّبُ على كلِّ مسلم بكلِّ ما يمتلك من طاقة أن يقوم بالدَّعوة إلى الله، وهذا من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما يقول تعالى:
{وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} ([2]).
المسلمون مقصِّرون في أداء هذا الواجب، مع أن ملوكهم وأغنيائهم يملكون الطاقة لذلك، فالواجب عليهم أولاً أن يعتمدوا كبار الدعاة لأخذ آراءهم واستشارتهم في كل الأمور.
وبماذا وحَّدَ النبي صلى الله عليه وسلم العالَم؟… وبماذا وصل خلفاؤه إلى حدود النمسا؟… بالعروبة؟! أم بالقومية؟! أم بالإسلام؟!).
أجاب نفسه: (بالإسلام… فإذا لم نعد إلى الإسلام فسنبقى متشرِّدين متفرِّقين أذلاء).
إذا لم نعد إلى الإسلام فسنبقى متشرِّدين متفرِّقين
– سيِّدي.. الآن وضعت الإصبع على الألم وعلى الجرح، عندما يدخل في الإسلام كبار الشخصيات أمثال: “كيتارو، مراد هوفمان، روجيه غارودي” ماذا يجب على المسلمين أن يفعلوا؟
(يجب أن يُعامل هؤلاء بما يليقُ بهم من تكريم وتشجيع… وهؤلاء هم المؤلفة قلوبهم، ويجب دعمهم وتشجيعهم).
وتابع وهو يهز رأسه آسفاً: (وهناك تقصير كبير في حقهم من قبل رؤساء وملوك وأمراء وأغنياء المسلمين، كما أنه يوجد تقصير أيضاً من المسلمين الذين لا يقومون بالدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة).
– سماحة الشيخ؛ العلاقة بين العالِم والحاكم عبر التاريخ أخذت بُعداً سلبياً، والناس دائماً تراهم يصفِّقون للعالِم الذي يقف في وجه الحاكم وتتردد عبارة “كلمة حق عند سلطان جائر” ويحيِّون من يقوم بهذا، وقد ينتقدون من يضع يده في يد الحاكم ويتَّهمونه بالمداهنة والنفاق.
لكن سماحتكم لكم منهج خاص في التعامل مع الحاكم، في العلاقة بين العالم والحاكم.
كيف تنظرون إلى هذه العلاقة بعيداً عن النفاق وعن المداهنة التي يُتّهم بها من يسلك هذا السبيل؟
-هزَّ شيخنا رأسه بأسفٍ ثم قال-:
(يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز، في هذا الموضوع مخاطباً موسى وهارون:
{اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} ([3]).
ليس فقط اذهبا، بل قال: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} ([4]).
فذهاب العالِم إلى الحاكم بحسب نِيَّته… وكما يقول رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم: «إنما الأعمال بالنيات»([5]). فإن ذهب ليستغل علمه عند الحاكم لأهواء نفسه فالأعمال بالنيات، وإذا ذهب امتثالاً لأمر الله ومسارعة لمرضاة الله، فالله عز وجل يعلم ما يُخفي وما يعلن.
فنسأل الله أن يوفقنا للإخلاص، وأن يقوم كل عالم بكفاءة وجدارة ليقوم بأداء الواجب بالحكمة والموعظة الحسنة، وأن يُعطي للحاكم حقَّه من الإجلال والاحترام).
ـ من خلال مسيرتكم الطويلة، تعاقب عليكم عِدَّة حُكام للمنطقة في سوريا أو في بلاد الشام، هل تذكرون أن تبدُّل الحكام آنذاك قد أوقعكم في مأزق أو في محنة في التعامل مع الحاكم؟ أو أنَّ منهجكم كان هو العصمة في طبيعة هذه العلاقة؟
-ابتسم شيخنا وقال-:
(بفضل الله.. وبكرم الله.. من حين استقلال سورية سنة 1946م إلى ساعتنا الحاضرة ما جرى اختلاف بيني وبين أيِّ حكومة من الحكومات المتعاقبة، لأن الإنسان الداعي إذا اتَّبع في أموره الحكمة، وهي بما عرفها العلماء: “فعل ما ينبغي، في الوقت الذي ينبغي، وعلى الشكل الذي ينبغي”، لا يفشل بإذن الله.
فإذا مشى القطار بدولابه على خطه الحديدي فلا خطر، أمّا إذا خرج عن هذا الخط فهناك الخطر.
فلذلك ما وجدت بفضل الله أي أذى ولا أي جفوة، بل كل تكريم وترحيب طيلة حياتي من كل حكوماتنا من عهد الاستقلال إلى الآن فرحم الله من سبقنا إلى رحمة الله ووفق الله رئيسنا بشار الأسد، وجعل خير الإسلام على أيدي حكامنا العرب والمسلمين).
ـ قُمتم سيدي بزيارة إلى جميع بلدان العالم، من أمريكا إلى الاتحاد السوفييتي السابق إلى دول أوربا، حتى إلى دول المشرق؛ إلى الباكستان، الصين، والتقيتم بزعماء، كيف رأيتم تقبُّل الآخرين للإسلام؟.
(لم أجد في حياتي كلها إنساناً لا يتقبَّل الإسلام، ولأذكر لك الآن مثالاً: “خالد بكداش” هو زعيم الشيوعية في سوريا وفي المشرق. وكنا نسكن في حيٍّ واحد، وكان إذا التقينا لا يُسلِّم… فمرَّة أقبلت عليه ومددت يدي إليه مصافحاً وقلتُ له معاتباً: السلام لله يا خالد!. لماذا لا تسلِّم؟!. وبالطبع سلَّم وتصافحنا).
لم أجد في حياتي كلها إنساناً لا يتقبَّل الإسلام
فابتسم الأخ بسام.
وضحك شيخنا قائلاً: (لم أتركه، أمسكتُ بيده وأدخلته إلى مسجد أبي النور في غرفتي وقلتُ لهُ: لنشرب كأساً من الشاي، وأخذتُ كتاباً من مكتبتي وفتحتُ باب الزكاة وتلوتُ ما أريدُ أن أتلوه في المذهب الشافعي في موضوع الزكاة: “يعطى الفقير والمسكين كفاية عمره الغالب؛ إنْ كان مُزارعاً يُعطى أرضاً، وإن كان يعمل بالتجارة يُملَّك رأس مال”… ووضَّحتُ له أمور الزكاة.. وكان بعد ذلك يردِّدُ دائماً: “الإسلام الذي أسمعه منك أضعه على رأسي”… وقد نشرتُ هذه الكلمة لمصلحة الإسلام، وأذعتها في دروسي العامَّة، فبلغت فقيدنا حافظ الأسد رحمه الله.
وقد ذكر لي خالد بكداش عندها أنَّه بينما كان في اجتماع مع رؤساء الحزب، قالَ له فقيدنا حافظ الأسد -رحمه الله-: “يا خالد بلغني أن المفتي أسلَمَكَ، فما هو مبلغ الخبر من الصحة؟!. روى خالد القصَّة لي بنفسه، فقلتُ له: أعرفك صادقاً، فبماذا أجبته؟.. قال خالد: “والله إنَّ الإسلام الذي أسمعه من المفتي أضعه على رأسي”. لذلك فالإسلام ناجح…
السيارة إذا قادها من يحسن القيادة توصله إلى ما يُحِبُّ من نزهةٍ أو محلِّ تجارة أو قضاء حاجةٍ… وإذا قادها من لا يُحسن القيادة ستهلكه وتهلك من معه.
هكذا الإسلام.. إذا وجدَه من يُحسن التعريف به سعِدَ وأسعد، وإذا لم يُحسن الترجمة فبحسب الإساءة تكون النتيجة).
الإسلام.. إذا وجدَه من يُحسن التعريف به سعِدَ وأسعد
– سيدي لَمَّا أذن الله سبحانه وتعالى ووُلِدتم في عام (1910م-1330هـ)، كانت هناك بداية الحرب العالمية الأولى، وفي عام 1939م الحرب العالمية الثانية، والآن تشهدون أولى حروب القرن التي تقرع طبولها، برأيكم سماحة الشيخ هل هناك من سبيل لتجنُّب العالم وتخليصهم من الحروب لينعموا بالأمن والسعادة؟
كيف تنظرون إلى هذه الصراعات الدولية وأسبابها التي قد تطيح بكلِّ القيم والكرامة وتهدر الدّم الإنساني؟
(هذه الحربُ وقى اللهُ العالمَ شرَّها… يمكن أن تقضي بما تملك من أسلحة على كلِّ حياة الإنسان. فإذا لم يستدرك من يملكون القدرة بحكمة وإخلاص ستكون نقمة، وقد تكونُ عالمية… ومعروف أن هدف أمريكا وتابعتها انكلترا من هذه العمليَّة ومطمعها كله هو البترول.
فإذا لم ينتبه العرب خاصة والمسلمون عامة، ويؤسسوا لهم هيئة استشارية من حكماء العلماء في مثل هذا الموقف وغيره ليكون الرأي موحّداً وحكيماً -ويد الله مع الجماعة- وإلا فالأمرُ خطير).
ـ سيّدي الآن كل واحد ينظرُ إلى هذه الأحداث من زاوية.. منهم من يرى المسلمين لا حول لهم ولا قوة وهم مقهورون لا محالة…
في الثمانينات سماحتكم قلتم: انتظروا عشر سنوات.. وستسقط الشيوعية وينهار الاتحاد السيوفييتي، وفعلاً في مطلع التسعينات انتهى الاتحاد السوفيتي. ونسمعُ منكم أن القرن القادم قرن الواحد والعشرين سيكونُ قرن الإسلام… على أي أساس بنيتم الرؤى والآمال مع أنَّ ما نراه جميعاً هو صورٌ قاتمة في الحرب على الإسلام… فكيف تفسِّرون لنا هذا الأمل، وبأن القرن القادم هو قرن الإسلام؟
رنا شيخنا إلى السماء بنظره وقال:
(أولاً: أحسّه إلهاماً قلبياً من الله عز وجل.
وثانياً: العالم “غير الإسلامي” أصبح يفتِّش عن الحقيقة، وكلكم تقرؤون وتسمعون في وسائل الإعلام في أمريكا وفي أوربا الكثير ممن يعتنقون الإسلام، وكما قلت لو تهيأ الإعلام الإسلامي بفرسانه على جيادٍ أصيلة فسوف نحقق ما قلتُهُ: بأن هذا القرن سيكون قرن الإسلام، وهذا العقدُ عقد الإسلام… ولكن لا تكون الأمورُ بالتمني كما ورد في الحديث: «ليس الإيمان بالتمنِّي ولا بالتحلِّي ولكن هو ما وقر في القلب وصدقه العمل»([6]).
هذا القرن سيكون قرن الإسلام
فإذا التقت القوتان: قوة “العلم والحكمة والقلب”، مع قوة “الحكم وقوة المال والقوة الدنيوية”، وتعاون جناحا الطائر… عندها ترتفع أمة الإسلام وتطير فوق السحاب إن شاء الله. وقلبي يحدِّثني أن هذا سيكون حقيقة).
– سيدي القضية الفلسطينية من عام 1948م وحتى الآن 2003م، مرَّت بمراحل عصيبة. في عام 1960 قبل احتلال القدس، ألقيتم كلمة في المسجد الأقصى حذرتم زعماء العرب والعالم من هذا الخطر الداهم… اليوم احتلت القدس وصار ما صار، والآن تشهد القضية الفلسطينية ظروفاً صعبة للغاية بحيث صارت المقاومة إرهاباً وعنفاً، محرَّمة على أصحابها، وصار اليهود بزعمهم هم من يقومون بالدفاع عن النفس.
كيف يرى سماحة الشيخ أحمد كفتارو، وكيف ينظر إلى تطور هذه القضية؟ وكيف السبيل إلى الخروج من هذه الأزمة في هذه المسألة؟
أغمض شيخنا عينيه ثم قال بعزم:
(أولاً يجب أن نكون واثقين من نصر الله اعتماداً على قول الله تعالى:
{وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} ([7])، وأين المؤمنون؟!. ولكنَّ هذا النصر الذي وعدنا الله به قيَّده بقوله تعالى: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} ([8])، وأيـن نصرتنـا لدينـه؟.. ويعدنـا: {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ }([9]). هذا هو الطريق إلى نصر الله).
– ما هو السبيل لعودة فلسطين إلى الأمة العربية والإسلامية بعد هذا الضياع الذي استمر لأكثر من خمس وخمسين سنة؟.
(يقول الله تعالى: { فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ}([10])… {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ ْ} ([11])، وقضية فلسطين هي في الواقع معجزة من معجزات رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث يقول: «لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا اليهود فتقتلوهم حتى ينادي الشجر والحجر: يا مسلم ورائي يهودي تعال فاقتله»([12])… لم يقل: يا عربي.. يا قومي.. قال: يا مسلم…
فقضية فلسطين تحتاجُ القيام بواجب إسلامي وقومي وعربي، على كل العرب، وهم ليسوا قلة وليسوا فقراء، فإن هم وحدوا كلمتهم في قضية فلسطين وجمعوا قواهم وتمسكوا بدين الله يحقق الله عز وجل لهم وعده:
{وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ }([13])، وكما قلت النهاية مضمونة ولكن متى؟.. وكيف؟..
موقوفة على عملنا ونيَّتنا وعزيمتنا، فإذا أردت وصدقت وصلت، أما إذا أردت وما صدَقت فلن تصل.
وصدق الله:{ لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ} ([14])، فأسأل الله عز وجل أن يوفق كل مسؤول من علماء وحكام، وأن يتهيأ كل منهم بما يملكون من طاقة، وأن يتلاقوا ويتعاونوا، وإلا فالمسألة كبيرة لهم أمام الله عز وجل، في الدنيا ثم في الآخرة، والقصاص من الله على التقصير).
– سيدي والدكم الشيخ محمد أمين عليه رحمة الله ورَّثكم مشيخة الطريقة النقشبندية، وقمتم على رأس هذه الطريقة فوجدتم المفهوم عن التصوف كما يراه الاتجاه الآخر فيه الكثير من البدع التي يصفونها خارجة عن الإسلام… كيف تنظرون إلى حقيقة التصوُّف وتربية مُريديكم أو التلامذة الذين تتلمذوا على أيديكم؟.
(أكرر دائماً لإخواني: لنرفع كلمة “تصوف”.
إن هذه الكلمة حادثة في الإسلام، ولكن مع ذلك التصوُّف الحقيقي تزكية النفس وطهارتها من كل ما لا يُحبُّ الله ويرضاه.
التصوُّف الحقيقي تزكية النفس وطهارتها من كل ما لا يُحبُّ الله ويرضاه
ولكن لما دخل في هذا السلك طفيليون ومغرضون بل وملحدون، ليشوِّهوا التصوف خاصة.. والإسلام عامة.. حصل تشويش للمجتمع الإسلامي.
فمنهم من حارب التصوف من هذه الناحية، وهو لا يعرف الحقيقة.. وأما الذي يعرف الحقيقة فلا يمكن لمن يرى الشمس أن يقول عن النهار ليلاً، فالواجب على من لا يعرف أن يتعرّف على الحقيقة ممن يعرفها، وإذا أردت وصدقت بما تطلب وصلتَ إلى المطلوب).
– سيدي هذا محور..، والمحور الآخر: الخلاف بين السنة والشيعة عبر التاريخ أخذ تطورات إلى حد الاقتتال في بعض الأحيان والتكفير في أحيان أخرى… وسماحتكم منهجٌ في التقارب بين السنة والشيعة.
كيف تنظرون إلى العلاقة في هذه الظروف خاصة بين أهل السنّة وأهل الشيعة؟
(أوَّلاً: إنَّ الاختلاف في الماضي بين ما يقال لهم سنة وشيعة فيه خطأ كبيرٌ، لأن الإسلام واحد. ولكنَّ السياسة لعبت دورها في تعميق ذلك الخطأ… في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يوجد سنة وشيعة…!. ولا في زمن الخلفاء الراشدين..!).
-وتساءل بحزم-:
(هل يقول الله عز وجل: هو سماكم الشيعة؟! أو السنة؟!.. لا! { هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ }([15])، فلماذا نهجرُ تسمية الله إلى تسمية نبتدعُها؟… فلا سُنَّة ولا شيعة، الإسلام… والإسلام فقط.
وكل من يقول: “لا إله إلا الله محمد رسول الله”، ويؤمن بالقرآن وبما أتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو مسلم.
ولكن حتى ولو خالفنا، هو أخونا بالله وحبيبنا في الله، ونتفاهم بالحكمة والموعظة الحسنة حتى تجتمع أفراد العائلة الإسلامية فنكون كالجسد الواحد أمام العدو الواحد.
وكما يقول تعالى: { وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ } ([16])).
ـ سيدي في الحوار الذي اتبعتموه -إن صحت التسمية- مع المسلمين الشيعة نقاط الخلاف، ماذا فعلتم بها بما يتصل بالصحابة، وفيما يتصلُ في قضيَّة الخلافة والإمارة؟ كيف عالجتم هذه المشكلة؟.
(أذكر لك قصَّة واقعة في حياتي في هذا الموضوع: مرَّةً دُعيت إلى طهران، ودُعيت إلى إلقاء مُحاضرة وكلمة، وبعد الانتهاء منها سألني أحدهم: هل تحب أهل البيت؟.. فقلت: لا..!، وأردت بجوابي “لا” أن أثير أحاسيسهم.. وتغيَّرت ألوانُ الوجوه، ورأيتُ أنَّ الأمر أصبح حرجاً.. فقلتُ: كيف لي أن يقبلوني مُحبَّهم وأنا أتمنى أن أكون خادم نعالِهم؟!. فبدأ التكبير والتصفيق وإلى آخره.
فكلنا مسلمون، وكثيرٌ من تلك الاختلافات قد تغيَّرت، وهذه حقيقة، ولكن أرجو الله أن يرزق كل مسلم الحكمة، والتي هي فرضٌ على كل واحدٍ منهم، لقوله تعالى:
{ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ } ([17])).
– سماحة الشيخ: في حياتكم في البيت كيف تعيشون مع أسرتكم؟. كيف كانت الحياة مع الحجّة أم عمر رحمها الله؟ كيف كانت حياتكم الأسرية والأبوية؟
ابتسم شيخنا وقال: (عليها رحمة الله، كانت الزوجة الصالحة المخلصة التي أفنت حياتها معي في خدمة الدعوة الإسلامية على رغم أمِّيتها.
كانت من الفجر إلى العشاء في تهيئة الطعام للضيوف الذين يأتونني، وبعد وفاتها كانت نيَّتي أن لا أتزوَّج، ولكنِّي سمعت شيئاً سماوياً: أنَّه خلال ثمان وأربعين ساعة ينبغي أن تتزوج… قلت لأخي الشيخ رمضان: ابحث لي عن زوجة صالحة.. فانتقى لي زوجتي الحاضرة -الله يرضى عليها- وهي مجازة من الجامعة السورية ثم أجيزت من كلية الدعوة، وتقيم الآن درسين في جامعين من مساجد دمشق: مسجد بدر في المالكي، ومسجد العادل في دمر.
والحمد لله أنا أعيش معها حياة سعيدة، وأسأل الله أن يتمم نعمته علي، ونعمته عليكم جميعاً، فالزوجة الصالحة نعمة من نعم الله).
أنا مع الدعوة إلى الله، ومجالسي مفتوحة لكلِّ مَنْ يريد الهداية والصلاح…
ولكن إذا فرغتُ منها أتَّجه إلى الجهة الأخرى، فهمِّي الوحيدُ في ليلي ونهاري وفي يقظتي ومنامي هو الدعوة إلى الله عز وجل.
ومن نعمةِ الله عليَّ أن زوجتي الحاضرة تحققُ هدفي ومرادي ونحن نقرأ معاً ليلاً ونهاراً، فإذا كنت مشغولاً بالمُطالعة تكونُ هي أيضاً مشغولة بالمُطالعة.
وإذا كان عندي ضيوف يكون عندها أيضاً تلامذتها من الداعيات ونحن معاً -إن شاء الله- نقوم بخدمة دين الله دعوة وذكراً بما نملكُ من طاقة، وبفضل الله وبكرمه).
– جزاكم الله خيراً سماحة الشيخ على إتاحة هذه الفرصة وإتاحة هذا اللقاء للتواصل مع المشاهدين ومع العالم الإسلامي من خلال هذه العدسة… ختاماً كيف تنظرون إلى هذه العدسة التلفزيونية التي تنقل الأحاديث إلى العالم؟
(هذه أعظم وسيلة وأعظم قوَّةٍ وطاقةٍ لإعلاء كلمة الله إذا أُحسِنَ استعمالها وأشرف عليها أكفَاؤها).
– كل الشكر والتحية والمحبة لوالدنا سماحة الشيخ أحمد كفتارو المفتي العام للجمهورية العربية السورية لإتاحة الفرصة لهذا اللقاء التاريخي. وشكراً.
([1]) سورة المائدة، الآية: (48).
([2]) سورة آل عمران، الآية: (104).
([6]) الجامع الصغير وزيادته للسيوطي ص348.
([7]) سورة الروم، الآية: (47).
([10]) سورة البقرة، الآية: (152).
([13]) سورة الروم، الآية: (47).
([14]) سورة النساء، الآية: (123).
([15]) سورة الحج، الآية: (78).