ولكن الضعيف لا يبقى ضعيفا
جلس شيخنا في باحة الطابق الأرضي في ظلِّ شجرة المشمش المتدلية أغصانها، كان الجو ربيعياً رائعاً… جلست بجانبه وهو يحمد الله على نعمه الكثيرة.
طلب من الشباب إحضار بعض الحبوب للحمام الذي تجمَّع حولنا… نظر إليهم سعيداً مبتهجاً.
كان بعض تلامذة الشيخ يُهيِّئون المكان لجلوس وفد من مجلس الكنائس الأمريكية وسكرتير السفير الأمريكي، ومجموعة من رجال السياسة والأعمال المهتمين بشؤون الشرق الأوسط.
بعد قليل وصل الوفد وكان عدده كبيراً، تقدَّم رئيس الوفد الذي كان قد زار شيخنا قبل سنوات وصافحه بودّ كبير، ثُمَّ فتح يديه ورفعهما عالياً وتنفَّس نسائم الطبيعة والجمال قائلاً:
“من الرائع أن نلقاكم وأنتم بخير وصحّةٍ جيدة.
حقاً إننا مسرورون لزيارتكم مرةً أخرى.
إنه لمن الممتع أن نسمعكم ثانيةً لتقوى همتنا لعمل شيء يُنقذ البشرية.
نحن فعلاً محظوظون بلقائكم…”.
رحَّب بهم شيخنا مبتسماً…
جلس الجميع على السجاد متحلِّقين حول الشيخ، وكلُّ واحد منهم يحمل مفكرته وقلمه وآلة التصوير.
كانوا مسرورين باللقاء، يتفحَّصون بتمعُّن كلّ شيء حولهم.
رحَّب بهم شيخنا ثانية قائلاً: (كان رسولنا الكريم محمد صلى الله عليه وسلم يدعو بعد كُلِّ صلاة «اللهم ربَّنا وربَّ كلِّ شيءٍ ومليكه، أشهد بأنَّك أنت الإله وحدك لا شريك لك وأنَّ عبادك كلهم إخوة»([1])).
وكرر بتأنٍّ: («وأنَّ عبادك كلهم إخوة».
فما أحوج إنسان هذا العصر إلى هذا المعنى الذي أتت به رسل الله جميعاً من قبل…
وأعتقد أننا رجال الدين نتحمَّل مسؤولية كبيرة في تحقيق هذا المعنى من الكلمات والأفكار وتحويله إلى واقع وعمل.
ولن يتحقق السلام وتنتهي الحروب والمجاعات والفقر إلا عن طريق الإيمان، والإيمان فقط، كما قال رسولنا الكريم: «ما آمن بي ساعة من نهار من أمسى شبعان وجاره جائع وهو يعلم»([2]).
لن يتحقق السلام وتنتهي الحروب والمجاعات والفقر إلا عن طريق الإيمان
كما قال ذلك من قبل إبراهيم وعيسى عليهما السلام: “أن تحبَّ قريبك كنفسك”([3]).
نحن بصورة خاصة رجال الدين المسلمين والمسيحيين ينبغي أن نشعر بهذه المسؤولية، ولا بُدَّ من وجهة نظري من إيجاد ثورة روحية دينية تجمع شتات الإنسان الذي شرد عن الله، وانغمس في الأخطاء.
ونحن السبب في ذلك!.. لأنَّ الأنبياء كلهم ما جاؤوا إلا من أجل إسعاد الإنسان وبنائه، ولقد خاطبونا بالعقل والحجة لننعم بالحياة الصافية الروحية مع الله).
اعتدل شيخنا في جلسته وتابع باسماً: (الإسلام يعتبر الإيمان بكل الرسل، وخاصة المذكورين في القرآن أساساً في الإسلام.
وكان سيدنا عليٌّ رضي الله عنه الخليفة الرابع للنبي محمد صلى الله عليه وسلم يُخاطب المسيحي: “إننا لا ننهاك عن المسيحية بل نأمرك بها”([4]).
وفي قرآننا الكريم نجد ثاني أكبر سورة من سور القرآن عنوانها: آل عمران “عائلة المسيح”، وسورة أخرى باسم مريم “أم المسيح” وولادة عيسى عليه السلام.
أفلا يتوجب علينا إذا أن نلتقي ولو بهذا القدر المشترك؟!..
ونجدد الآراء العتيقة التي دخلت على ينبوع الدين الصافي وعكرته أمام العقل والفكر.
فالقرآن الكريم يجعلنا عائلة واحدة، وتعاليمه أصيلة لم تتغيَّر أبداً من بدء الخليقة، والله خلقنا لنتعارف ونتحابَّ ونعين بعضنا بعضاً).
ونظر إلى الجميع وكأنَّه يُحمِّلهم مسؤولية ما يحدث قائلاً: (لقد ابتعد الدِّين كثيراً عن العقل!.. بل لقد حصل ما هو أخطر من ذلك!.. فقد وقع الإنسان فيما حرَّمه الله عليه من الكبائر والجرائم والحروب، وعلينا مسؤولية كبيرة أمام الله، وسيسألنا عنها ويحاسبنا عليها).
وتابع باسماً: (وأتمنى لو كانت صحّتي جيدة لكنت جئت إليكم، وأحكمنا العمل سويَّة.
ولقد زرت أمريكا أربع مرات، ومكثتُ في الزيارة الأولى شهرين أحاضر في جامعات البحيرات الكبرى عن الإسلام وحقيقة الإيمان وأصالته، وكيف يمكن العودة إليه.
أنتم الآن شباب ما شاء الله، وأرجوا أن تُثمر جهودكم في إنقاذ البشرية من شرورها، وأهلاً وسهلاً بكم).
قال رئيس الوفد: “في الحقيقة ما تفضَّلتم به من كلمات تضعنا أمام تحدٍّ كبير، لأننا مقصِّرون جداً في تحقيق المراد الإلهي، وعلينا أن نبذل أكثر وأكثر.
وإنَّ أحد مهام مؤسستنا التي نعمل من خلالها: أن نُخفِّف من الجوع في العالم. ورُغم جهودنا البالغة، لم نستطع أن نحقق هذه المهمة على الوجه الأكمل للقضاء على الجوع العالمي”.
قال شيخنا مشجعاً: (يقول ربُّنا عز وجل: { فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ }([5]). فالله لا يضيع الأجر ولو كان البذل قليلاً، ويقول رسولنا الكريم: «درهم سبق ألف درهم»([6])، فالذي لا يملك إلا درهمين أنفق نصف ماله، والذي يملك المليون أنفق ألف درهم، كلاهما بذل بالقدر الذي يستطيع، والله ينظر إلى البداية وإلى النية والعمل الدؤوب.
فالعطاء لا بُدَّ أن يُثمر ولو كانت البداية متواضعة والله يُعطي الأجر الكبير على كل خير نفعله ولو كان قليلاً.
وعندما نبذل ما في وسعنا يُساعدنا الله ويتمم عملنا، كما قال رسولنا الكريم: «والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه»([7])).
عندما نبذل ما في وسعنا يُساعدنا الله ويتمم عملنا
كان الجميع يدوِّنون الكلمات المترجمة، وهم يرنون بحب وإعجاب إلى الشيخ.. فتابع: (وأتمنى أن يكون هناك مجلسٌ مشتركٌ للتعاون الإسلامي المسيحي، لنعرف بعضنا بعضاً، ورسولنا الكريم يقول: «يدُ الله مع الجماعة»([8])، «وإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية»([9]). فيجب أن نكون معاً في مواجهة تلك المحن والمجاعات التي تحلُّ بالعالم قبل أن تقضي علينا جميعاً).
قال أحد رجال الوفد: “في الحقيقة هذا فكرٌ رائع وعظيم!…
ويجبُ فعلاً أن نتعاون معاً لتحسين الواقع الحياتي لكل أبناء الله.
فالمسيح يقول: جعتُ فأطعمتموني، وعريتُ فكسوتموني، ومرضت فعدتموني. فقالوا: أيُّها الرَّب، إننا لم نفعل ذلك معك!.. فكيف تمَّ ذلك؟!. قال: نعم، لكم إخوة وأخوات وقعوا في المرض والحاجة، فزرتموهم وأعطيتموهم، فكأنَّما أعطيتموني ذلك”.
قال شيخنا: (وهذا المعنى أيضاً في الإسلام… فالله يعاتب الإنسان الجاهل بربه ودينه يوم القيامة بقوله: «يا ابن آدم جعت فلم تطعمني، فيقول: يا ربِّ كيف أطعمك وأنت رب العالمين؟ فيقول الله تعالى: أما علمت أن عبدي فلاناً استطعمك فلم تطعمه، أما أنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي»([10])).
ثم ضحك شيخنا قائلاً: (الماء من ينبوع واحد، ولكن ألوان الكؤوس تختلف!… فما أجمل اليوم الذي تتلاقى فيه الرسالتان السماويتان من أجل تقدم الإنسان وسعادته.
وأعتقد أن ذلك اليوم سيكون احتفالَ السماء والأرض.
كما نشكر الإخوة لما يقومون به من جهود لخدمة البشرية وندعو الله أن يوفقنا أيضاً لإطعام جياع الإيمان.
وهذا الأهمُّ للرجوع بهم إلى الله الواحد الأحد حتى تلفَّهم الطمأنينة بعد هذا القلق والخراب.
ولفهم تعاليمه الأصيلة التي تؤمِّن للبشرية سعادتها ورُقيّها وسلامتها).
ثم تابع شيخنا بجدِّية وقد شبَّك أصابعه: (الإسلام يسعى إلى هذا الأمر في القرآن الكريم ضمن برنامج كامل، والأمر مهيَّأ تماماً.
ولكن نحتاج لأن نبدأ هذا العمل، وبذلك نخدم الإيمان والسَّلام بالواقع والعمل، وليس بالعواطف فقط.
وما زلتُ أدعو إلى هذا التعاون والسَّلام منذ أربعين سنة، وفي الحقيقة علينا أن نساعد بعضنا بعضاً، وأن نبني كياننا على القيم الربَّانية الأصليَّة.
وأرجو من الله أن أرى قطار الإيمان قد بدأ يسير بدولابه على السكَّة الربانية قبل أن ألقى الله.
كما أرجو أن نحظى بقائد حكيم لهذا القطار، يُحسن القيادة نحو هذا الهدف الذي عمل له الأنبياء جميعاً بوصاياهم وتعاليمهم التي أنزلها الله الواحد الأحد عليهم، ونقلوها لنا صافية من كل شائبة… وكلها تفرض علينا، ليس الاتفاق والتعاون فقط.. بل أن نكون شخصاً واحداً وبالحبِّ والرحمة… كما وصف ذلك رسولنا الكريم: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد اذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى»([11]).
ثُمَّ قال رئيس الوفد: “لدى اندلاع العنف الأخير في القدس انزعج كثيرٌ من الأمريكيين، فانتهزنا الفرصة لنعبِّر للرئيس كلينتون عن اهتماماتنا وقلقنا ورغبتنا أن تكون القدس لكل الأطراف، ولكل أبناء الديانات الثلاث. وبلَّغناه معارضتنا لأيِّ عمل يُغيِّر من وضع القدس، واستنكارنا لأيِّ عمل يُبعدُ الفلسطينيين عن القدس التي هي موطنهم الأصلي.
وقد وقّع العريضة ثلاثة وثلاثون قائداً لثلاثين كنيسة من مجلس الكنائس تحتَ رعاية سكرتير عام مجلس الكنائس القومي، وسُلِّمت شخصياً للرئيس كلينتون”.
كان شيخنا ينظر باهتمام، ثم قال: (نحن نقدِّر هذا العمل، ونشكركم على مناصرة الحق والحقيقة).
وتابع موضحاً: (بلادُ الشام تشمل فلسطين وجيرانها. وما من نبيٍّ إلا منها أو هاجر إليها… لذلك يجب أن تكون القدس عالمية وللأديان الثلاث، وألا يُحرمَ أهلها الأصليون منها!.. وهم الآن ضعفاء ومُضطهدون، ولكن الضعيف لا يبقى ضعيفاً، والمظلوم لا يبقى مظلوماً… وستبقى تلك الاضطهادات بؤرة لتعكير سلام المحتل واستقراره.
وأرجو مِمَّن يؤججون هذه الحروب أن يُلهَموا الصواب لإعادة الحق إلى أصحابه).
وتساءل: (ألا تكفي خمسون سنة من الحروب وسفك الدماء وتشريد السكان الأصليين وتيتيم الأطفال وترميل النساء؟!..
هذا ليس من مصلحة اليهود، لأنَّهُ لا بُدَّ من أن تعود دائرة السوء عليهم، وكما تدين تدان، والتاريخ شاهدٌ على أمثلة كثيرة.
ويجب على كل من يملك الطاقة والقدرة على إحقاق الحق والعدل الذي هو شرع الله ووصايا رسله).
كان الجميع يسجلون الكلمات بتأثر وحضور بالغ بينما تابع شيخنا آملاً: (نرجو الله العظيم أن يُلهم الإنسان أن يعود إلى مدرسة الله، ويُلهمنا نحن رجال الأديان أن نفقه الهداية الإلهية ونطبقها ونعلمها للآخرين.. ليحل أخيراً ليس الإيمان فقط، بل وثمرته: السلام، والإخاء، والرحمة).
أومأ الجميع موافقين، ثم قال: (لقد زرت في أسفاري معظم بلدان العالم، والتقيت برجال دين وسياسة، حتى في روسيا الشيوعية التقيت في الكرملين أكثر من مرة بكبار الشيوعيين، وجرى حوار بيني وبين قادتهم ساعات وفي أوقات مختلفة، فرأيتهم يقبلون الإيمان النقي الصافي الصحيح البعيد عن كل التأولات والتشويهات).
وضمَّ يديه قائلاً: (وأنا شخصياً متفائل دائماً، وأقولُ في كل محاضراتي: إن القرن الواحد والعشرين قرن الإيمان الحقيقي، كما أن أحاديث رسولنا الكريم محمد صلى الله عليه وسلم تنبِّئ بأنه سيتمُّ لقاء الإسلام والمسيحية هُنا في دمشق، ويجب علينا نحن رجال الدين أن نهيئ الجو لذلك، ونعبِّد طريق اللقاء والتعاون وعودة السَّلام والحب لكل البشر).
سُرَّ رئيس الوفد كثيراً وقال: تحضرني كلمات القديس بولس إذ يقول: إنَّ من ثمار الإيمان أن يكون هناك الحبور والسعادة، وضبط النفس، والصبر واللطف، وكل الأخلاق الكريمة… وبدونها لا يمكن أن يكون هناك إيمان.
ابتسم شيخنا قائلاً: (هذه الكلمات كلها من منبع واحد، ونبع الله لا يتغيَّر… والإنسان هو الذي غيَّر الأصول، ولذلك نحتاج إلى تصفية وتنقية، وأن نعود إلى الإيمان الأصيل الذي نزل من السماء وبذلك نكسب حياة الأرض وحياة السماء).
وقف الجميع مسرورين مودِّعين…
قال رئيس الوفد: “نشكر سماحتكم على هذا الحديث الرائع.
أنتم تنظرون برؤية مستقبلية ربَّانية.
نودُّ من كلِّ قلوبنا أن نراكم في أمريكا لنُحقِّق ما سمعناه منكم”.
رحَّب بهم الشيخ ثانية: (أهلاً وسهلاً بكم جميعاً.. وإلى لقاء آخر وجهود مباركة لإعادة البشرية إلى الإيمان الحقيقي الأصيل وإلى عبادة الواحد الأحد وامتثال أوامره.. اللهمَّ آمين).
([1]) رواه الإمام أحمد وأبو داود.
([2]) رواه الطبراني والبزار بإسناد حسن من حديث أنس.
([3]) متى (19:19)، ولاوييز (19: 18).
([4]) وهو قول الصحابي حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه للمقوقس، انظر: زاد المعاد لابن القيم الجوزية 3/961.
([5]) سورة الزلزلة، الآية: (7).
([6]) أخرجه النسائي وابن حبان والحاكم.
([9]) رواه أبو داود والنسائي وأحمد.
([10]) أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة بلفظ: “استطعمتك فلم تطعمني”.
([11]) رواه البخاري (الأدب: 6101)، ومسلم (البر والصلة: 2586) عن النعمان بن بشير رضي الله عنه.