نحن بشر ولكن لِنَكُن أوَّابين لأوامر الله
دُعينا إلى مؤتمر في بيروت… لازَم الأرقُ سماحَةَ الشَّيخ في تلك الليلة التي سيلبِّي صباحَها الدعوة، وكان –رحمه الله- مِمَّن يبذل جهده في وضع النقاط ورؤوس الأقلام للمحاضرة التي سيلقيها، حيث قام عدة مرات ليُضيف فكرة أو عبارةً حتى اقترب الفجر.
قمنا وصلينا صلاة التهجّد ومن ثم الفجر ثم طلب الفطور علَّه يستطيع النوم بعدها -سبحان الله إذا أهمَّه أمر المسلمين لم يعد يلتفت لشيء آخر-.
كنتُ أحاولُ إضافةَ بعضَ اللقيمات خفيةً إلى صحنه حتى يأكل جيداً، كان يراقب ويسمع التلفاز وهو يُبدي قلقه للتطورات السيئة في أفغانستان فخاطبني حزيناً: (انظري عمامته على رأسِهِ ولحيته إلى خصره ويحمل سلاحاً تجاه أخيه المسلم!. سبحان الله!. أين الإسلام؟!.. ورسولنا الكريم يقول: «القاتل والمقتول في النار»([1]).
وتساءل أسِفاً: (هل هؤلاء مسلمون حقيقيون؟!.. أين عقولهم؟!
أين إيمانهم؟!.. أي مستقبل يخطط لهم المستعمرون؟!.. وضعوا السلاح في أيديهم وملؤوا قلوبهم بالعداوات والتعصّب الأعمى!.. مساكين!.. مساكين!.. يذبحون أنفسهم بلا طائل!.. مَنْ الرَّابح في هذه المعركة؟. هل هذا جهاد؟!. الجهاد الأكبر في التغلُّب على الهوى وحُبِّ الزعامة والأنا.
“أنا خير منه”، هذا مبدأ إبليس، الله تعالى يقول: { مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ }([2]).
كلُّ مبدأ مثالي هو في صميم الإسلام.
يا بنتي؛ الإسلامُ يحملُ في صميمه كلَّ المبادئ الخيّرة للجميع، لكن هُناك من يعمل للشيطان.. ويُحارب للشيطان.. وهناك مَنْ رضي الله عنه.
الإسلامُ يحملُ في صميمه كلَّ المبادئ الخيّرة للجميعه
صِرنا أعداء بعضنا!.. أعداء الإسلام!…
القرآن كله جهادٌ مع الأنا والنفس، وضدَّ الجهل والحرب والعداوات.. القرآنُ هو الدُّستور الفكريُّ الحياتيُّ الإيمانيُّ الذي يُوصِلُ إلى الصِّراط المستقيم؛ إلى السعادة والسلام لكل العالمين.
مُشكلتنا الأولى أننا لا نعرف الله، ولا نعرف أوامره ولا نطبق بجهلنا فقه القرآن الفقه العملي، صرنا أنفالاً لأعداء الإسلام وغنائم سهلة لهم).
وقال محتداً: (كلمة “بركة” خربَتْ بيت المسلمين.. القرآن صار للغناء والطرب والبركة!.. أين التدبُّر؟!..
البركة في فهمه والعمل به، والله تعالى يقول:
{ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا }([3]).
القرآن صار للغناء والطرب والبركة!.. أين التدبُّر؟!
{ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ } ([4]).
هل تلا هؤلاء القرآن حق تلاوته؟!.. هل فهموا ما يريدهُ اللهُ فعملوا به؟!.. لا حول ولا قوة إلا بالله العليِّ العظيم).
ثم قال لي بعد الفطور مشفقاً: (لقد أسهرتك معي طويلاً وسنسافر بالسيَّارة، ولربَّما تتعبين، تعالي ونامي حتى ترتاحي).
قلتُ له سأحاولُ ولكن بعد أن أُنهي عملي في ترتيب أمور السفر.
استيقظَ بعد ساعتين فقط، وكنت لتوِّي أنهيت الترتيبات فقال معاتباً: (لم تنامي؟! أتعبتُك في الليل).
قلتُ باسمةً: المهمُّ أنك نمتَ قليلاً، أرجو أن تكون مرتاحاً.
ركبنا في السيَّارة ولم تمضِ دقائق حتى وجدتُ نفسي أتمايل من النُّعاس، فاقترب مني وقال مشيراً إلى كتفه: (ارتاحي.. ضعي رأسك).
نظرتُ إليه شاكرةً وقلتُ: لا أرجوك… أخشى أن أتعبك.
قال: (لا أنا مرتاح). وما هي إلا لحظات حتى لفَّني نومٌ عميق.
انتبهتُ من غفوتي على صوت السائق “أبو الخير السعدي” يهمس: يا حجّة.. يا حجّة.. قاربنا الوصولَ إلى الحدود.
فتحتُ عيناي بصعوبة، لم أدرِ أين أنا، وأحسست بأنامل شيخنا تمسُّ ظهر يدي بلطفٍ زائد معبِّراً عن أسفه لإيقاظي: (عفواً هاتِ اللفة بابا).
وضعَ اللفة على رأسه وما كان من الضُّباط إلا إلقاء التحيّة عليه وطلب الدعاء لهم، وبعد أن تجاوزناهم بقليل عرضَ عليَّ متابعة النَّوم.
فقلت ضاحكةً: لا.. الحمد لله.. نمتُ جيداً واستعدتُ نشاطي، ثم أمسكَ كتابه وبدأ يقرأ لي بعض مقتطفات من سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعاملته لأزواجه.
وكعادته -رحمه الله- لا يترك القراءة أبداً، حتى في السيارة، فكتابه لا يفارقه أبداً.
كانت ينتقي لي الكثير من اللطائف النبوية التي تنطبق على حياتنا الآن وعلى واقعنا الإسلامي… حتى لا أستنكر أو أُدهش مما يقع معي ويتكرر دائماً.
تابع بحنان: (نحن بشر، ولن يتغير البشر كثيراً، انظري إلى الصحابة الكرام، فالرسول صلى الله عليه وسلم بينهم والوحي ينْزل عليه، ومع ذلك لا بُدَّ من الاختلاف والتباين في الآراء والأعمال، وقد يكون هناك بعض التنازع والشِّجار، المهم أن نكون مثلهم: أوَّابين لأوامر الله، محكمين كتابَهُ، تجاه العدوّ جسداً واحداً، وقوَّة رادعة للظلم، نبلِّغ رسالة الإسلام إلى مشارق الأرض ومغاربها.
عندها نكون مُسلمين حقيقيين فيستجيب لنا دعاءنا وينصرنا.
نرجو من الله أن نكون جميعاً كما أراد لنا).
([1]) رواه البخاري ومسلم والنسائي وأبو داود وابن ماجة وأحمد.