كونوا أبناء السماء
خرجْنا من المسجد لتلبية دعوة العَشاء في مقرِّ الجمعيَّة الإسلامية في “هونغ كونغ”. كان الجوُّ في الخارج حارّاً جداً ورطباً بينما كانت صالة الطعام مُكيَّفة بدرجَةِ تبريدٍ عاليةٍ.
وبعدَ تناولنا للعَشاء استغلَّ الحُضُورُ وجُودَ الشَّيخ وبدؤوا بإلقاء أسئلتِهم المُتعلِّقة بأمورهم الدينية، والشيخُ يجيب بودٍّ واهتمام.
أحسَسْتُ بتعَبِهِ، فرجَوْتُ مترجِمَهُ الأستاذ فاروق آقبيق أنْ نغادر المكانَ بسُرعة.
وصَلْنا غُرفة الفندق، وقبل أن نرتاح توجَّه الشيخُ إلى الموضأ، وفجأةً أخرج ما في معدته عدَّة مرات، علماً أنَّهُ لم يتناول إلاَّ لُقيمات.
تراخَى بين يديَّ وخارت قواه، فلم تعُدْ تحمله قدماه على المشي، متلوِّياً من الألم وبصعوبة بالغة أوصلتُهُ إلى السَّرير.
جلس متعباً يلهَثُ وأماراتُ الشَّحوبِ والاصفرارِ تبدو عليه، سألني وأنا أمسحُ وجهَهُ: (معكِ ورقة وقلم؟).
تساءَلتُ بخوفٍ ودهشةٍ: نعمْ..! ماذا..؟!
ردَّ بحزم: (معكِ ورقة وقلم؟).
أرعَبَني ما يُفكِّرُ فيه، وأنا أنظرُ إليه والدُّموعُ في عينيَّ: نعم.. نعمْ.
بَحَثْتُ عن مفكِّرتي، وأنا أرجوه باكيةً ضارعةً: أرجوك بعدَ أن ترتاح.
علا صوتُهُ مُتعباً: اكتُبِي.. اكتُبِي.
تَمْتَمْتُ مبتلِعَةً دموعي: حاضِرْ.. حاضِرْ.
وجدتُ قلماً بجانب السَّرير ونظرتُ إليه ضارعَةً، ولكنَّهُ بدأ بصوتٍ مُرْتَعِش: (إخواني وأحبابي: السَّلام عليكم ورحمَةُ الله وبركاته..).
جاءني صوتُهُ من بعيد وكأنَّها وصيَّة مودِّع!..:
(أعظَمُ السَّعادات يا أبنائي وبناتي أن يستجيب الإنسانُ لتعاليم الله وندائه فيعمل بما يريدُهُ الله تعالى، وهذه هي الاستجابة الحقيقية كما قال تعالى: {اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ }([1]).
أعظَمُ السَّعادات أن يستجيب الإنسانُ لتعاليم الله وندائه فيعمل بما يريدُهُ الله تعالى
وهذه حقيقة الإسلام وروحُهُ، لأنَّ فيها حياة القلبِ والفكر والرُّوح والعمل، ولا غاية لها إلا إسعادُ الإنسان.. كلّ إنسان).
نظرتُ إليه مليَّاً وكأنِّي في حُلمٍ ويدايَ تَخُطَّان ما يُمْلي عليَّ عاضَّة على شفتي حتى لا يعلو نشيجي.
سمِعْتُ صوتَ البابِ!.. وهرَعْتُ لأفتحَهُ فإذا بزوجة المُترجِم -الأستاذ فاروق- تدخُلُ عليَّ وتستقبلها عيناي مستنجدةً فتعودان بالخيبة والحيرة لأنها لم تكن أحسن حالاً منّي.
واسترسل الشيخُ حديثَهُ مومِئاً إليَّ بمتابعة الكتابة:
(أيها الأحبَّة اقرؤوا القرآنَ بالتدبُّرِ والعلمِ والعملِ لتعلموهُ بقالِكم وحالِكم وأخلاقكم. القرآنُ نقلةُ حضارةٍ وتقدُّم لكلِّ إنسانٍ يؤمن بهِ يقيناً فيعملُ بتعاليمِهِ ووصاياه).
اقرؤوا القرآنَ بالتدبُّرِ والعلمِ والعملِ لتعلموهُ بقالِكم وحالِكم وأخلاقكم
القرآنُ نقلةُ حضارةٍ وتقدُّم لكلِّ إنسانٍ يؤمن بهِ يقيناً فيعملُ بتعاليمِهِ ووصاياه
تنحْنَحَت زوجة فاروق، فنظرَ إليها شيخنا فانكمشتْ تستغيثُ الله بلا حولٍ ولا قوَّة، ونظرتْ إليَّ أنْ اكتُبي.
هزَّ رأسَهُ مُتألِّماً ولكنَّه تابَعَ: (كونوا أبناء السَّماء كونوا أبناء الإسلام، لا سلامَ للعالم إلاَّ بالإيمان الحقيقي، عودُوا إلى تعاليم الله ومدرستِهِ، وأكثروا من ذِكر الله).
عودُوا إلى تعاليم الله ومدرستِهِ، وأكثروا من ذِكر الله
نظرتُ إليهِ غيْرَ مصدِّقةٍ ما أسمعُ، واجمةً خائفةً، فتابع: (كونوا أبناء الشَّيخ حقاً لا بُنوَّة الجسد التي قالَ الله تعالى فيها لنوح عليه السلام: { إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ } ([2])، بلْ بنوَّة القلب والرّوح والفكر التي تورثكم صِبغة الإسلام).
تنهَّدتُ باكيةً وفقدتُ الأمل أن يرتاح قليلاً، دوى صوتُه في أذني: (..أبنائي لا تتمُّ الأمور، ولا تنجَحُ بالأماني والكسَل، ولا حتى بالدعاء فقط، هويَّة المسلِم الحقيقية في جهادِه لنفسه ودعوتِهِ إلى الله بالمعروف ونهيهِ عن الْمُنكر قالاً وحالاً وسلوكاً.
هويَّة المسلِم الحقيقية في جهادِه لنفسه ودعوتِهِ إلى الله بالمعروف ونهيهِ عن الْمُنكر قالاً وحالاً وسلوكاً
كلُّ مَنْ صدَق في إيمانِهِ، وصدَقَ مع ربِّه في سرّه وجهرهِ، في رضاه وغضبِهِ، سيكونُ الله معَهُ وسيصدُقهُ وينصُرُهُ، أما قال الله تعالى:{ لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ } ([3])، أي يَتوبَ إذا تابُوا؛ إذا أنابوا إلى الله..).
كل من صدَقَ مع ربِّه في سرّه وجهرهِ، في رضاه وغضبِهِ، سيكونُ الله معَهُ وسيصدُقهُ وينصُرُهُ
فجأةً تراخى الشيخُ على السَّرير وظلَّ متوجِّهاً إليَّ، لَمَسْتُ يدَهُ راجيةً: سيدنا كفى أرجوك لقد تعبْتَ…
وكأنَّه لم يسمعني، كأنَّه أصبح في عالم آخر ثُمَّ أردَفَ مُتابِعاً: (أبنائي؛ لا شيء إلا بثمن).
اقتربتُ منه أكثر وجلستُ بجانبه على السرير، ليطمئِنَّ بأني أدوِّن كلَّ كلماتِهِ فنظر إليَّ شاكراً وتابع: (أحبّائي؛ التوفيقُ والنّجاحُ ليسَ بالأماني، ولكن بالعمل الدّؤوب ليلاً ونهاراً.
لا تكونوا كاليهود الذين ضربت عليهم الذِّلَّة والمسكنة.
اخترَعوا لكم القوميَّة حتى تتمزَّقوا فيهدِمُوا إسلامَكم -سرّ وحدتكم- جعلوكم أمَّة العرب وأمَّة العجم وأمَّه الهند.
اخترَعوا لكم القوميَّة حتى تتمزَّقوا فيهدِمُوا إسلامَكم سرّ وحدتكم
شغلونا بالتفرُّق المذهبي: شافعي.. حنفي.. سنِّي.. شيعي.. وهَّابي.. سلفي.. صوفي- وحرَّضوا كلَّ فئةٍ على تكفير غيرها، وغايتُهم تمزيقُ وحدَتِكم، والله جلَّ شأنَه يقول:
{ إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ}([4]).
أين واقعنا من هذه الآية؟.. هل صحَّحنا سيرتنا؟..).
نالَ منِّي الْجُهْدُ وزاغَتْ عيناي غَيرَ أنَّه تابَعَ غير مبالٍ بنظراتي: (ليكن همُّكم بالليل والنهار إعادة بناء الإسلام، ورضاء الله ومحبَّتِهِ وخدمَةِ دينه).
ليكن همُّكم بالليل والنهار إعادة بناء الإسلام، ورضاء الله ومحبَّتِهِ وخدمَةِ دينه
أغمضَ عينيهِ وتنفَّس بعُمْق ثُمَّ قال: (ابنوهُ أوَّلاً في أنفسكم وعقولكم وسمعكم وفي مقاصدكم، المسلم الحقيقي هو القدوة الحسنة لكلِّ مَنْ حولَهُ، ينشرُ الإسلامَ بحالِهِ وقالِهِ وأعمالِهِ وأخلاقِهِ).
تململَ مُتحرِّكاً ونظر إلينا بتحسُّر…
لم تنطقْ زوجة الأستاذ فاروق بكلمة، ولكنْ كانتْ تشجعني على الكتابة بنظراتها، وتتضرَّعُ إلى الله بحركةِ شفتيها أن يحميه ويشفيه.
بعد قليل علا صوتُهُ وكأنَّه تحسَّن قليلاً: (كونوا إسلاماً يمشي على الأرض، يتمثَّلُ القرآنُ في حياتكم).
ثم تنهَّد شيخنا بقوة، ونظرَ إلينا بثبات وتابع وكأنَّه على منصَّة مؤتمر: (لا يُمْكنُ الخروجُ مِمَّا نحن فيه من ضعف وتشتت إلا بالعودة إلى القرآن العظيم.
لا يُمْكنُ الخروجُ مِمَّا نحن فيه من ضعف وتشتت إلا بالعودة إلى القرآن العظيم
كلُّنا جميعاً في المعركة، تجمَّع الأعداء ضدَّنا وهدفُهُم تمزيقُ المسلمين والإسلام.. وللأسف نفعَلُ كما أراد لنا الأعداء ونمشي على مخطَّطِهم، بل نُسارِع في تحقيق أهدافهم.
تكالبوا علينا كما ذكر رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم: «تداعَى عليكم الأُمَمُ كما تداعَى الأكلَةُ إلى قصعتها»([5])، عليكم أن تفقهوا هذه الحقيقة وتتحمَّلوا المسؤولية، وكلٌّ حسبَ طاقتِهِ.
والله تعالى يقول:{ وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ} ([6])، يعني من يَعْمَل بتعاليمه وينصرُ دينهُ وينشرُهُ ويكون مسلماً حقيقياً، عندها ينصُرُهُ الله ويرفعُهُ ويعطيه ما يشاء، بل أفضل مِمَّا يريد.. لا هَمَّ لي سوى كيفيَّة العودةِ إلى الإسلام وكيف ننقِذهُ).
كانت قواهُ تخورُ شيئاً فشيئاً، ونحنُ نتوسُّلُ إليهِ بنظراتِنا وتأوُّهاتنا أن يرتاح قليلاً، ولكن بلا جدوى، ثم أخذ يتابع: (اجتهدوا ليلاً ونهاراً في الدُّعاء والتضرُّعِ، ولكن بعد العلم والعمل والتعليم، فتِّشوا أنفسكم: هل أنتم مسلمون حقيقيون؟!..
أوَّل كمال الإنسان أن يعرف نقصَهُ ويتفقَّدَهُ ويسعى لتصحيحهِ وتغيير ما بنفسِهِ، وحاشا لفضلِ اللهِ أنْ يُخَيِّبَنا).
أسندتُ رأسي إلى الحائط متسائلةً في نفسي: إلى متى؟..
نظرَ إليَّ مشفقاً ولكنَّهُ تابع: (أنا واثق ومتفائلٌ، والأمَلُ هو المحرِّكُ الحقيقي للعمل.. إذا اتحدنا وَعُدْنا لتعاليم الله نشرنا الإسلام وأجهضنا افتراءات الأعداء وكيدهم، ولكنْ بالحكمة والموعظة الحسنة..
وليس للمسلمين جنسيَّةٌ إلا دينهم. أنتم إخوة في الإسلام، لا يجوز أن يفرِّقكم نسبٌ ولا لغة ولا وطن.. اعملوا ما بإمكانكم، والله لهم بالمرصاد).
سمعت حركةً في الخارج، نظرتُ إلى الباب مُستَنجِدَةً عسى أنْ يكون الأستاذ فاروق، فنظرَ إليَّ بتحسُّرٍ قائلاً: (قلبي محروق على الإسلام والمسلمين، لا تكونوا رجالَ الدُّنيا أطفال الآخرة.. أرجو أن يوفّقنا الله لِما يحبُّ ويرضى..
لا تكونوا رجالَ الدُّنيا أطفال الآخرة
نحنُ على سفرٍ والله تعالى يقول:
{ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} ([7]).
نحنُ مسافرون ونحتاج للزوَّاده).
كنتُ أكتبُ ولا أدري كيف تقع الكلمات.. صارَ تنفُّسُه مسموعاً، ومع ذلك تابع: (الحياةُ مَمَرٌّ لا مقرٌّ، ومحطَّة للتَّزوُّد، فتِّشوا زوَّادتكم عسى أن تكون كلها حسنات، فعليها تعتمد سعادتنا الأبدية.
من يزرع الشوك لا يقطِفُ الياسمين.
هويَّةُ المسلم في أعماله، وبها تُفتَحُ له أبواب السَّماء فيتحدَّدُ مصيرُهُ على أساسها، ومدرستنا كتاب الله عز وجل الذي قال فيه: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ}([8])، أي من شيءٍ يحقق سعادتنا ونجاحَنا، تفوُّقنا وتميُّزنا في ديننا ودنيانا وآخِرَتنا.
قريباً تنبثق شمسُ الحقيقة؛ شمسُ الإيمانُ وتطلُّ على العالَم.. والإسفار بدا.. أطيعوا أولي الأمر منكم..).
أخيراً وصل الأستاذ فاروق مع أحد تلامذة الشيخ الصينيين الذي درس عندنا في المجمع. تنهَّدْتُ طويلاً ناظِرةً إليه مستنجدةً، ولكنَّ شيخنا تابع بضعف:
(حافظوا على حُسْنِ صِلَتِكُم بالرَّئيس حافظ الأسد، لقد ساعدَنَا كثيراً، ولهُ النَّصيبُ الأوَّل في بناء المجمَّع والدّفاع عنه ومساندتِهِ، أرجوكم لا تضيّعوا تعبي).
نظر الأستاذ فاروق إلى شيخنا يُحاوِلُ أن يقول شيئاً.. وانحنى الأخ الصيني أمام السَّرير والدُّمُوع تنهمِرُ من عينيه.
تابع شيخنا مُصَمِّماً: (كونوا جسداً واحداً، كونوا جميعاً ولا تتفرَّقوا، كونوا جسراً لبعضكم بعضاً، كونوا كالشِّراع الأمين لسفينةِ الإسلام حتى تصل مرفأ النّجاة والسَّلام.
كونوا كالشِّراع الأمين لسفينةِ الإسلام حتى تصل مرفأ النّجاة والسَّلام
هذه هي السَّعادة بين يدي كل مسلم.
كونوا نوراً، كونوا شموساً حتى تمحوا الظلام والجهل والظلم والعدوان).
تحسَّن قليلاً وأشارَ إليَّ، وأخذ المفكِّرة وكتب:
(هذه وصيَّتي لأبنائي جميعاً، وكلُّ ما فيها أمليته على زوجتي المخلصة، وأوصيكم بها خيراً، وشاهدٌ على ذلك فاروق وزوجته رضي الله عنهم جميعاً، والسلام عليكم ورحمةُ اللهِ وبركاته).
ثم وقَّع عليها:
خادم العلم والإخوان
الشيخ أحمد كفتارو
نقلونا إلى المستشفى، كان الأستاذ فاروق يتَّصل بطبيب شيخنا الخاص “أويس طرقجي” في سورية، ويُحيطُه علماً بحال الشيخ الصِّحِّي فيشير علينا بما نفعل.
قضينا النَّهار كلَّه في المستشفى، وها هي بوادر التحسُّن تظهر عليهِ، فيرمُقَني بنظراته مشفقاً عليَّ لما رأى خوفي وبُكائي ويقول: (الحمدُ لله أنا بخير، لا تخافي لقد أتعبتُكِ معي).
صارَ يربِّتُ على كتفي مُعتذِراً: (كلهُ خير، وأرجو أن يُكتَبَ لكِ الثَّواب فيما عانيتِ).
انهمرَتْ دموعي هامِسَةً: الحمدُ لله.. الحمدُ لله..
والحمدُ لله مرَّت الأزمة بسلام، فغادرْنا صباح اليوم التالي متوجِّهين إلى اليابان إلى مؤتمر الأديان وصلنا المطار حيثُ استقبَلَنا أعضاءٌ كثيرون من جماعَةِ الأموتو الدينية بالأعلام والفرح وعيونٌ تفيضُ دمعاً وفرحاً بسلامَةِ الشيخ.
التقينا بالأعضاء الرّئيسيين وكانوا قلقين على صحَّته جلسَ ساعةً يُحدِّثهم عن الإيمان ومدرسة الله، وكيف يرقى الإنسان بذكرِ الله، ثُمَّ وضَّحَ لهم أسس الإسلام في تربية الفرد والأسرة والمجتمع وكيف يُحمِّلُ الإسلامُ كلَّ فردٍ مسؤوليَّتَهُ في هذه الحياة، ليكونَ رحمة وهداية للآخرين، وأخبرهم أنَّ أكبر خطرٍ يواجِهُ هذا الإنسان هو فقدان الحبِّ والرحمةِ من قلوب الناس، فقد انقرضت العاطفة العائلية كواجبٍ ومسؤولية، فحوادث الطّلاق تزداد يوماً بعد يوم، والمـُسكراتُ والمخدِّرات تفتكُ بعقولهم، ولا دواءَ إلاّ بالعودة إلى نظام الله ومدرسته.
وبعد انتهاء الجلسة، أخذونا إلى مُنتجَع وحَمّامات “هنانوساتو” المعدنية ليرتاحَ الشيخ قبلَ المؤتمر.
الحمدُ للهِ تحسَّنتْ صحَّتهُ، وكان لا يفتأ يَحْمَدُ اللهَ على كلِّ شيء، ويسألني عن حالي مشفقاً، ويُطمئنّي بأنَّه بخير كلما رأى خوفي وقلقي عليه.
عُدنا إلى مدينة “أيابي” حيثُ عُقِدَ المؤتمر.
جلس شيخنا سعيداً وأنا بجانبه قلقةً أنظرُ إليه خشيةَ حدوثِ شيء آخر.
كانت كلمةُ شيخنا مُهمَّةً حيث قال فيها:
(كيلا تغرق سفينة البشرية، ولِنُنْقِذ العائلةَ الإنسانية لا بُدَّ من العمل بقانون السماء، الذي لا يتحيَّز لأحدٍ إلا للحقّ حيثما كان.
لكيلا تغرق سفينة البشرية، ولِنُنْقِذ العائلةَ الإنسانية لا بُدَّ من العمل بقانون السماء
لقد سيطرت الأهواء والأنانيات على العقول فأصبحت عاجزةً أمامها، فتعامَت عن الحقّ، أو صارت تراهُ ولا تتبعه، ذلك لأنَّ الرُّوح الإنسانية ضَعُفَتْ لأنَّها بَعُدَت عن صِلَتِها بالقوانين الإلهية الحكيمة).
وختمها بوجوب تعاون الأديان لخدمة الإنسان وسعادته، وشدَّد على وجوب نظافة البيئة الروحية والأخلاقية قائلاً: (..فالإنسان جسدٌ وروحٌ، ولا بُدَّ من العناية بكلٍّ منهما حتى تكون حياته متوازنة لا خراب فيها.
ولأن الإنسان أهمّ ما في الوجود، فلا تكونُ سعادته إلا بالعودة إلى الإيمان الحقيقي، لأنَّ ضغط العلم المادي وكسب العيش أضعفَ تأثُّر الإنسان بالإيمان وممارسته، ولا سندَ لروحِهِ وقلبه إلا تعاليم الله، وإلاّ فسَيَحِلُّ به الدَّمار الرُّوحي والقلقُ والانحرافُ والفوضى الأخلاقية، وسيظلُّ يجري وراء الأهواء والمادّة والشهوات حتى ترتكس إنسانيَّته إلى أسفل منحدَر، وستعجزُ البشريّة عن العودة إلى إنسانيَّتِها ورُقيّها).
صفق الحضورُ ونزل شيخنا مسروراً، عانقهُ رجالُ الأموتو وهُمْ يقولون: “نحنُ معتزُّون بكم، لقد أفضتُّم على المؤتمر من روحانيَّتكم وتعاليم دينكم الكثير.. نحنُ شاكرون لكم كثيراً”. وصاروا يأخذون الصُّور التذكاريَّة.
أحسستُ بسعادة شيخنا البالغة، وعلت الحيوية والنشاط وجهه الحبيب.
وجاء كثير من مديري هيئة الأمم المتحدة يُحيُّونه قائلين: نرجو أن نتعاون جميعاً لجعل كوكب الأرض فردوساً متميِّزاً بالرَّحمة والسلام كما ذكرتم.
وقال أحدُهُم وهو يشدُّ على يديه: “أنتم تنظرون من عالم آخر، ومفهوم أعلى من عالمنا، إنكم تنظرون من بعيد.. من وراء هذا العالم المادِّي، وترجُون تغيير الكثير.. رؤيتكم رؤية نبيٍّ يُحبُّ الخيرَ لكلِّ البشر، حماكُم الله لخير هذه البشريَّة وسعادتها..”.
عُدْنا أخيراً إلى دمشق، وقد أقسَمْتُ عليهِ ألا يُسافِرَ إلا برفقةِ الطّبيب لرعايةِ صحَّتِهِ، لأنَّ أهمَّ ما في الدَّعوةِ رجالُها الْمُخلِصون.
([1]) سورة الأنفال، الآية: (24).
([3]) سورة الأحزاب، الآية: (24).
([4]) سورة الأنبياء، الآية: (92).
([5]) أخرجه أحمد وأبو داود عن ثوبان رضي الله عنه.