في خطر الفناء الروحي
بعد إسلام رؤساء طائفة الأموتو في اليابان بفضل الله ثم عناية شيخنا -رحمه الله- حَرِص على تلبية دعواتهم ومؤتمراتهم.
كان يُستقبل استقبالاً حافلاً وتُحشَدُ له كلُّ الإمكانيات لسماع حديثه عن الإسلام وكان يُرافقه دائماً طبيبُهُ الخاص ومترجمه.
ولكن في هذه المرّة لم يرافقه الطبيب رغم إلحاحي بذلك على مَنْ يُدبِّر أمر سفرنا مُرَدِّدة لشيخنا: “إنَّ أهم ما في الدعوة رجالها”، ورجوتُهُ: أنَّ حياتك وصحتك أغلى ما يجبُ أن نحافظ عليه، وذكَّرته بانفعاله لإسرافنا في نقطة الماء واستهلاك الكهرباء، وأنَّ صحَّته أغلى وأغلى…
فنظر إليَّ بحنان وقال: (علَّمتك على نفسي حتى تُحاجِّينني؟.. الله يرضى عليكِ، أنا والحمد لله بخير، والمهم أن نتواصل مع هذه الطائفة حتى يزداد إيمانها، لعل الله يجعل الخير فيهم في اليابان وغيرها).
وتنهَّد قائلاً: (لا يهمّني سوى الدعوة إلى الله وإعلاء كلمته).
كان السفر إلى اليابان متعباً جداً، لا سيما وأننا توقفنا في دولة الإمارات عدَّة ساعات التقى خلالها شيخنا بإخوانه المقيمين فيها بصالة المطار، وحثَّهم على الإخلاص في خدمة دين الله والانشغال بما يرضيه، وأن يجمعوا شملهم، ولا يتنازعوا فيدَعُوا شمس الإسلام تغيب عنهم ويبقى لهم منه اللقب والميراث…!
ثم انطلقنا إلى مدينة “هونغ كونغ” حيث كان ينبغي علينا المبيت فيها ليلةً والانطلاق صباحاً إلى اليابان.
ولم نكد نرتاح في الفندق، حتى جاء أحد تلامذة شيخنا الصينيين الذين درسوا في مجمع الشيخ أحمد كفتارو وكان يعمل إماماً ومدرساً دينياً في مسجد “هونغ كونغ” فذكر لشيخنا أنه نسق مع الأستاذ “فاروق” لقاءً مع المسلمين والمسلمات في مسجده.
بدت السعادة على وجه شيخنا، فهذا ما يهمه ويريده وما سافر لأجله، ولو كان السفر طويلاً ومتعباً.
نظرتُ إليه متسائلة وبقلق، فردَّد كعادته: (لا راحة لي إلا برضاء الله، إنها الأمانة يا بنتي… يا بنتي الداعي ليس له سن تقاعد إلا بلقاء الله).
وأثناء ذهابنا إلى المسجد، كان الجوُّ حاراً ورطباً.
لم يتوان الكثيرُ من الصينيين بإرسال التحية باحترام وودٍّ رُغْم وجوده في السيارة وكأنَّهم يعرفونه…!
بدأ الجمع بالتوافد، حيث استأذن معظمهم من أعمالهم قبل انتهاء الدوام، ليحضروا محاضرة شيخنا.
دخلوا بهدوء وحبور، وحيّوه من بعيد واحترام، وامتلأ المكان… وجلسوا يذكرون الله بصمت، وكأنَّ على رؤوسهم الطير… خيَّم الهدوء لفترة.
بعد قليل بدأ الشيخ بصوته الرَّخيم، بعد بسم الله الرحمن الرحيم: (السلام عليكم ورحمة الله وبركاته…).
ردَّدوا بصوت عميق ملأ المكان: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
وأخرج كل فرد منهم دفتره وقلمه، وبدؤوا بكتابة ما ترجمهُ المترجم لهم… قال شيخنا بهدوء: (يقول الله تعالى:
{ وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } ([1]).
ثم أعاد الآية ثانية وتابع: (الغفار هو الله وليس أحد غيره، ومغفرته بشروط حدَّدَها تعالى في آية أخرى: { وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى } ([2])).
كان الجميع يكتبون ويرنون إليه بود، صمَتَ قليلاً ثم قال: (فالإسلام هو انتقال النفس البشرية بالتوبة من الرذائل والنقائص إلى الكمالات، ومن إنسان شرير إلى إنسان الخير والعلم… الإسلام نقلة للفكر الإنساني، والعقل الإنساني من اللاحقيقة والخطأ إلى الحقيقة والصواب.
الإسلام نقلة للفكر الإنساني، والعقل الإنساني من اللاحقيقة والخطأ إلى الحقيقة والصواب
الإسلام هو انتقال النفس البشرية بالتوبة من الرذائل والنقائص إلى الكمالات
الإسلام رفعُ الفوارق اللونية والعرقية والجنسية، فقال تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} ([3]) إنها القيم التي تأخذ بالعقلانية والعلم والحكمة وتزكية النفس، وتحرُّر الإنسان من عبادة الإنسان، ومن الجهل والخرافات والأنانية… تحرره من عبادة جسده وأهوائه إلى عبادة الإله الخالق العادل. فالله تعالى يقول:
{ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ }([4]).
ولا تَمَيُّزٌ إلا بطاعة الله العظيم، وبالأخلاق الفاضلة، وجعلنا إخوة فقال رسولنا الكريم r: «الإنسان أخو الإنسان..»([5])… وأكد على وجوب وصول القمة الإنسانية في علاقةِ الإنسان بأخيه الإنسان بقوله صلى الله عليه وسلم: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحبُّ لنفسه»([6])).
أعاد الحديث بتؤدة..، مغمضاً عينيه.. رافعاً رأسه، قائلاً: (هذه أعلى المقامات الإيمانية، إيثار الآخرين، ومحبة الخير لهم، ليسود الود والحب والرحمة.
شاعت الآن القيم التي تسيطر عليها الاحتكار، والتعدِّي والإرهاب، ومافيات السلاح والجنس، والحضارة الغربية اليوم تشهد أزمة صعبة، فمع أنها حققت إنجازات هائلة في الجوانب العلمية والمادية فإنها تعاني أزمة خطيرة في الجوانب الفكرية والروحية والاجتماعية).
-ساد صمت قصير تخلله كلمة (الله) تنهَّد بها بعض الحاضرين- (المسلم إنسان اختصه الله برحمته، لأنه أرسل له منهجاً سماوياً يهديه ويسعده، ولكن قد تضعف يوماً ما إرادته فتغلبه نفسه.. ولكن ما إن يستيقظ الإيمان في قلبه حتى يستعيد همته وعافيته وإرادته، فيعود إلى ما يمليه عليه الإيمان فقط، لاغياً من سلوكه كل تقليد للآخرين أو معتقداتهم، فالتقليد إبطالٌ لعمل العقل وتحجيمه.
المسلم إنسان اختصه الله برحمته، لأنه أرسل له منهجاً سماوياً يهديه ويسعده
إن العالم الغربي حصر علومه بما يخص الجسد فقط، وهو الآن في خطر الفناء الروحي وفقدان الإيمان وهذا سيقوده إلى الكارثة لا محالة، لأنه وإن كان تقدم بحضارته وصناعاته فإنه فقد روحه وحقيقته وجهل نفسه وربه.
العالم الغربي حصر علومه بما يخص الجسد فقط، وهو الآن في خطر الفناء الروحي
والإسلام بأصالته حضَّ على العلم بما يتعلق بالجسد والروح على هذا الكوكب، وفي العالم الآخر الذي سننتقل إليه بأرواحنا لا بأجسادنا).
وأقبل عليهم متابعاً: (الخطأ يحصل عندما لا نحيط بكل نواحي هذا الأمر، والمؤمن يسعى دائماً لترقية نفسه وتزكيتها… وهوية المسلم في أعماله وأخلاقه مستمدة من الشريعة السمحاء، وإذا أحسن العمل بها، أحسن البلاغ لها… وعلم بلا عمل حجة الله علينا، فالعلم وحده لا يكفي… فالعلم في الإسلام يهتم بنتائج الأعمال وأهدافها السامية ويرتبط بعقيدة الإنسان بتقديم ما هو نافع للبشرية… فالطبيب يشرب الكحول ويعلم ضرره… وقد يتعرض لأمراض الجنس والإيدز وهو يعلم خطورة ما يُقدم عليه، لأنه مغلوب من نفسه وهواهُ).
علم بلا عمل حجة الله علينا
وتابع: (فالهوى يغلب العلم، ولكن سلطان الإيمان وحده يغلب الهوى ويجعله تبعاً لأوامر الله، كما رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم: «لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به»([7])).
سلطان الإيمان وحده يغلب الهوى ويجعله تبعاً لأوامر الله
كانت الأنامل تتسابق مع الأقلام لتسطير العبارات… والعيون تلاحق حركة شفاه المترجم كي لا تفوتها الكلمات.
(المحرَّمات كلها مؤذيات للإنسان، لذلك حرَّمها الله علينا حتى لا نؤذي أنفسنا، ولكنَّ الطفل يضع نفسه في الخطر لأنه جاهل.. وكلُّ من يعصي الله يكون جاهلاً، لذلك اعتنى الإسلام كثيراً بمناعة الإنسان النفسية حتى يستطيع مجابهة ومحاربة الشهوات والمثيرات والمحرمات التي تسيء إليه وتؤذيه يقيناً. حتى يُعلن الحرب على كل نقائصه وعيوبه فيقتلعها من جذورها… فالإيمان يوقظ في قلب المؤمن حب الله وتعظيمه وخشيته… والخوف من غضبه، بل المسابقة إلى رضاه.
إن تربية الإيمان هي تربية الإنسان من الداخل، تربية معيَّة الله: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} ([8])).
تربية الإيمان هي تربية الإنسان من الداخل، تربية معيَّة الله
ورفع صوته قائلاً: (فيعلم أن الله رقيبه وناظره ولو غاب الرقيب، ولو غاب الرقيب.
كلُّ إنسان بفطرته يعلمُ الخطأ من الصواب، والحلال من الحرام. فالقطّ إذا سرق قطعة اللحم يهرب بها بعيداً ليأكلها، وإذا قدمتها له يأكلها أمامك وهو يموء لك شاكراً لك، فالحيوان فقيهٌ في الحلال والحرام…!
كلُّ إنسان بفطرته يعلمُ الخطأ من الصواب، والحلال من الحرام
فلا يكون الإنسان أقلَّ منه فقهاً في ذلك، وقد كرَّمه الله بالعقل.!
نظافة العقل وحكمته توصل إلى الحق والحقيقة دون أخطاء.
كان دعاء الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: «اللهمَّ أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه»([9])… هذه الرؤية بغير عين الجسد… بل ببصيرة القلب التي تقويها طاعة الله ورضاؤه.
الإنسان في الإسلام هو أهم مخلوق في هذا الكون، والله سخَّر له السموات والأرض، وجعله خليفة في الأرض ليعمِّر الكون مادِّياً وروحياً، وليقيم حكم الله في الأرض.
والمؤمن الحقيقي صاحب إرادة ووعي، وقادرٌ على النجاح والتميُّز على سائر المخلوقات، ولا يكون ذلك إلا بتدبُّر برنامج السعادة؛ برنامج الكتاب العظيم؛ قرآننا الكريم..
فإذا فهمنا تلك الرسالة الإيمانية، وعملنا بها استطعنا أن نعيش حياة رائعة على هذا الكوكب، وما بعد هذا الكوكب.
فالقرآن يحوي مفردات الحياة السعيدة للفرد والمجتمع والعالم كله.. ورفض الإنسان لتعاليم الله دليل على ضعف عقله وطفولة إدراكه وتغلب شهوته).
القرآن يحوي مفردات الحياة السعيدة للفرد والمجتمع والعالم كله
نظرت إلى الأستاذ فاروق وهمست: “شيخنا متعب أرجوكم” رفعت يدي أرجوه ليرفق بنفسه… فابتسم شيخنا مطمئناً لي.
ثم رفع يداه داعياً فقال:
(أرجو الله أن يجعلكم مؤمنين حقيقيين لتقودوا العالم كله إلى السمو الأخلاقي والروحي والحضاري، من خلال تعاليم الله الخالدة… وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين).
اقترب الجمع منه قليلاً، ثم انحنوا مودِّعين شاكرين.
([1]) سورة الأنعام، الآية: (54).
([3]) سورة الحجرات، الآية: (13).
([4]) سورة النحل، الآية: (90).
([5]) إشارة إلى قوله صلى الله عليه وسلم: «المسلم أخو المسلم…» متفق عليه.
([7]) حديث حسن صحيح أخرجه الحسن بن سفيان وغيره، ورجاله ثقات وصححه النووي في آخر الأربعين.