فلينظر أحدكم من يخالل
كان الإخوان من بعيد يراقبون الأوضاع خوفاً على الشيخ من أي إزعاج أو ضيف غير مرغوب فيه.
كنا نتمشّى، وكان يعلمني الكثير، لم يترك لحظة إلا ويعلمني فيها آيات وأحاديث ويقص القصص والعبر والأشعار.
كل كلمة كان لها مدلولها الذي يريد أن يغرسه فيّ بحنان وحب وحكمة.
جلسنا لنرتاح على كرسي في الجهة القبلية فابتعد عنا الإخوان ودخلوا المنْزِل.
لاح من بعيد شبح رجل يتجه إلينا، وما كاد يقترب حتى حاول الإخوان ثنيه عن لقاء الشيخ ولكنه كان قد وصل إلينا.
عندما رآه شيخنا نظر إليه ملياً.
قال الرجل: أرجوك أعطني بعضاً من المال، زوجتي مريضة جداً ويلزمها عملية.
فدعا له شيخنا بلطف.
استغربت الموقف، ووددت لو أنه أعطاه.
غادرنا الرجل بانكسار، وهو يتمتم بكلمات غير مهذبة.
نظر إلي شيخنا لَمّا رأى استغرابي ودهشتي وأيقن أنني سأكلمه في الأمر فابتدرني:
(أتعلمين من هذا الشخص؟).
قلت: طبعاً لا. ثم قلت بخجل: ولكن يبدو أنه فقير ومحتاج!.
فقال شيخنا بحسرة: (والد هذا الشخص كان اسمه ملك الغوطة، كان يملك معظم أراضي الغوطة، وعندما توفي ترك لهذا الشاب تقريباً معظم ثروته، ولكن الرجل كان طفلاً في عقله وتدبيره وحام عليه “أولاد آدو” أصحاب السوء فجرّوه إلى الخمر والنساء والقمار حتى فقد كل أمواله وصار يتكفف الناس)… تابع بحنان وهو ينظر إلي:
(يا بنتي الصاحب ساحب، يا بنتي الإنسان يبحث شهوراً عن حذاء مناسب وعن ثوب يعجبه، ولكن عند الصديق لا يفكر ولا يختار الجليس الصالح، وينسى بأنه سيشرب من أخلاقه وسلوكه رغماً عنه… رسول الله r يقول: «المرء على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل»([1]).
الصحبة نقلة نوعية في شخصية الإنسان، إما جنة وإما نار، شاء أم أبى.
الصحبة نقلة نوعية في شخصية الإنسان، إما جنة وإما نار، شاء أم أبى
هذا الرجل تركه أصدقاؤه دون أي معونة أو وفاء بعد إفلاسه!). ثم تابع بهدوء وحزن: (لقد جاء إلي عدة مرات وأشفقت عليه وساعدته، ولكن عندما تكرر طلبه رفضت إعطاءه أي مبلغ، وأرسلت السائق ليوصله مرة إلى داره بغرض التعرف على أهله، فوجدهم في بيت فقير جداً، وأخبرت زوجَتُهُ السائقَ بأنه باع كل شيء حتى أغراض البيت. فصرت أرسل لها مؤونة، ولكن زوجته طلبت عدم الإكثار لأنه كان يبيع حتى المؤونة ليلعب بالقمار ويشرب مخدرات، ولا بأس عنده أن يبقى أولاده بدون طعام أو لباس، وقالت إنها تخفي عنه ما كنا نرسله لها. إن حالتهم صعبة جداً، حتى أهلها رفضوا استقبالها مع الأولاد لذلك فضلت البقاء في هذا البؤس لعل الله يفرج عنها يوماً، بل صارت تعمل حتى تساعد أولادها وتعلمهم وتعيلهم). حزنت كثيراً وأيقنت بأن شيخنا أعطاني درساً لن أنساه وفكرت ماذا فعل هذا بنفسه؟ وكيف اختار هذا الطريق؟ لقد قتل نفسه وقتل شخصيته حتى أولاده لم يبال بهم!… وصدق الله العظيم: { وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} ([2]) فعلاً كما قال شيخنا: (لقد باع عقله للشيطان). تابع شيخنا: (الموفق يا بنتي من يسارع إلى تصحيح خطئه قبل فوات الأوان وقبل أن يغرق فلا يستطيع أن ينقذ نفسه.الموفق من يسارع إلى تصحيح خطئه قبل فوات الأوان
الموفق من يبحث عن مربٍّ يعلمه ويزكيه، فيرى الحق حقاً ويتوجه إليه، ويرى الباطل باطلاً ويجتنبه. الله يوفقنا…الموفق من يبحث عن مربٍّ يعلمه ويزكيه، فيرى الحق حقاً ويتوجه إليه
الله أنار لنا الطريق وعبّده لنا، ومن ثم أعطانا العقل لنتجه إلى صراطه المستقيم والذي يأبى هو الخاسر الأول، كما قال رسول الله r: «كلكم يدخل الجنة إلا من أبى، قالوا: ومن يأبى يا رسول الله؟ قال: من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى»([3]). يا بنتي دائماً نتهم القدر بأنه السبب، اختيارنا هو قدرنا.نحن دائماً نتهم القدر بأنه السبب، ولكن اختيارنا هو قدرنا
ألهمنا الله الخير دائماً وصحَّحَ خطواتنا). قلت: آمين آمين. صيف 1993 ([1]) سنن الترمذي، عن أبي هريرة رضي الله عنه. ([2]) سورة النساء، الآية: (5). ([3]) صحيح البخاري، عن أبي هريرة رضي الله عنه.