فلما أن علوت بعدت
طال سهرُنا ولم نستطع النوم فقدْ كان سماحته تعباً ومُرهقاً.. ومع ذلك جلس يقرأ ويكتب، فقد جاء أحد المقرَّبين مساءً وأطلعَهُ على حقيقة شخص كان يثق به فدُهِش جداً وآلمه الخبر، مع أنَّه في الآونة الأخيرة كان يُحسُّ ذلك ولكن كان يأمل أن تتغيَّر الأحوال ويؤوب الرَّجُلُ إلى عقله.
أكَّد لي أنَّه حزين.. ليس لأن ذلك الشخص قد أخطأ في حق الشيخ، بل لأنَّهُ يخشى على هذا الأخ من عذاب الله، ويريد أن ينقذه من المساءلة يوم القيامة، وأنَّه يخافُ على إيمانِهِ وسيُحاولُ نُصحَهُ معذرةً إلى الله لعلَّه يَصحو من غفلتِهِ ويعودُ إلى رُشدِهِ ويُصلحُ سلوكَهُ.
رجاني كثيراً أن أذهب إلى غُرفةٍ أخرى لأنام وأرتاح، فيبدو أنه لن ينام الآن…
كان تارةً يقرأُ وتارةً يُطفئ النور لأجلي ويحاول أن ينام ومن ثم يقوم ويكتب أموراً يُخاطِبُ فيها ذلك الشخص.. يُقنعه بالعدول عن أعماله ويُردِّد: (لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم).
ثم أخذ يكتبُ أبياتاً من الشعر تقول:
(دعوتُ الله أن تسْمُو وتعلو عُلـوَّ النجم في أفق السماء
فلمـا أنْ علوتَ بَعُدتَ عني فكان إذن على نفسي دُعائي)
كنتُ أنظرُ إليه حائرةً…، فلم يكن بوسعي أن أتكلَّم أو أن أفعل شيئاً…
ولكن لم يُطاوعني قلبي أن أتركه وحيداً وهو على هذه الحالة فرجوتُهُ قائلةً: صدِّقني سأطمئنُّ وأرتاحُ أكثر إذا بقيتُ بجانبك، وإذا ذهبتُ لغرفةٍ أخرى سأظلُّ قلقةً، ولنْ أنامَ حتى أراكَ قد أطفأتَ النُّور.
وطمأنتُهُ أنِّي سأنام حالاً فأنا حقاً نَعِسَة، فليفعل ما بدا له وليُبقِ النُّور مُضاءً.
رجاني بأنّي سأكونُ غداً متعبة، ولن أستطيع أن أهتمَّ به، فتوسَّلتُ إليه: أرجوك.. أرجوك.. أبقني بجانبك، سأنام فوراً، ومن ثَمَّ نمتُ فعلاً باستغراق… انتبهتُ من نومي فزعةً على صوت انكسار الزُّجاج!..
تحسَّست الفراش فلم أجدهُ -وكان قد أطفأ النور-.. هرعتُ إلى الصالة فصاح: (انتبهي!!.. لا تدوسي. لقد انكسر الكأس).
نظرتُ إليه وقد انحنى على الأرض، سألته بخوف: بالله عليكَ ماذا تفعل؟ رأيتُهُ يرفعُ قطعَ الزُّجاج المكسور على الأرض… ركعتُ إلى جانبه فصارَ يُردِّدُ: (لا حول ولا قوة إلا بالله.. أيقظتك؟!.. لقد علقَ الرداء بكأس الماء فوقع وانكسر).
عضَضْتُ على شفتي حتى لا أبكي وقلتُ مُختنقةً: حسناً، وماذا تفعلُ الآن؟!…
رفَعْتُ بقيَّةَ القِطع المتناثرة ثم أمسكتُ بيدِه فقال: (خشيتُ أن تدوسي على الزُّجاج وتجرحي نفسَكِ).
اغرورقتْ عيناي بالدُّموع وعُدنا للغرفة.
نظرتُ إليه قائلةً: أيعقلُ هذا؟!.. نادني..!.
ربَّتَ على كتفي وقال: (يا بنتي: هل جزاء الإحسان إلا الإحسان؟.. كم تتعبي من أجلي، لا يمكن أن أترك قطع الزجاج تجرحك.. يا بنتي: البَرُّ من لا يؤذي الذَّر، فكيف أؤذي زوجتي وهي ترعاني؟!).
فقلتُ في نفسي: ما أرحَمَك!.. وما ألْطَفَكَ!..
صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«خيركم، خيركم لأهله»([1]).
كم تفتقدُ الزوجات عطفَ وحنان أزواجهنَّ رغم أنهم مسلمون.. ليتهم يجعلونك قدوتهم بحكمتك وعطفكَ واهتمامك.
اللهمَّ اجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وورثته أسوةً لنا جميعاً..
اللهمَّ آمين.
صيف 1998