جوهر حقيقة الأديان
لقاء مدير المتحف الثقافي البريطاني “كِنت كنتبري” خريف 1997 أسقف لندن ومرافقيهم مع شيخنا.
زارنا مدير المتحف الثقافي البريطاني فاستقبلهم شيخنا في غرفة الضيوف مبتسماً سعيداً مرحباً به أحرّ الترحيب قائلاً: أهلاً وسهلاً بأبناء سيدنا عيسى عليه السلام، أهلاً وسهلاً ومرحباً كررها أهلاً وهو ينظر إليهم مبتسماً قائلاً:
أغلى شيء على قلبي أن يجمع الله أبناء الدينين لأنه في الأصل والحقيقة الواجب الفعلي والواقعي أن يلتقي على أقل المستويات أبناء سيدنا المسيح وأبناء سيدنا محمد وأبناء سيدنا إبراهيم الخليل وشبك يديه متابعاً: وأوسع من ذلك أن يلتقي الإنسان مع أخيه الإنسان، ظهر الحبور على وجه الضيوف فتابع شيخنا وهو ينظر إلى الأستاذ فاروق مترجمه:
لأن الأديان كلها في حقيقتها ما قاله رسولنا الكريم «إن مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى داراً فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة من زاوية، فجعل الناس يطوفون به، ويعجبون له ويقولون هلا وضعت هذه اللبنة، قال: فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين»([1]).
نظر إليه الأسقف متأملاً فتابع شيخنا:
الإنسان المعاصر الآن دون مبالغة بعيد عن الإيمان أياً كان مسلماً أو مسيحياً، هناك إيمان الانتساب أحدنا ينتسب إلى سيدنا محمد، وآخر ينتسب إلى سيدنا المسيح كشخص ينتسب إلى جده الطبيب وما هو بطبيب.
حياة الإنسان، على هذا الكوكب. أصبحت في خطر محدق، سواء من تلوث البيئة، أو من زيادة السكان، أو من فقد السلطة العالمية التي كانت ترتجى من هيئة الأمم لتكف من سيطرة الأقوياء على الضعفاء.
قدم لنا أحد الشباب الشاي مع النعناع أخذ كل منا كوبه وتابع شيخنا حديثه: لو اجتمعوا لاستطاعوا فعل أي شيء حول هذه الأخطار المحدقة بإنسان عصرنا الحاضر.
رشف الجميع الشاي وهم يستمعون لحديثه فقال:
لقد التقيت بكثير من رجال الكنائس سواء في أمريكا أو أوربا وأهمها لقاء البابا الحالي الذي دعاني ثلاث مرات، وألقيت فيها محاضرة في الفاتيكان بطلب منه بعنوان “مستقبل الدينين الإسلامي والمسيحي في العصر الحاضر” بدت على الضيوف علامات الاستغراب والاهتمام تابع شيخنا:
والمحاضرة الثانية كانت في جامعة ميلانو بعنوان “التسامح الديني الإسلامي” ثم كان لي معه لقاء دام ستين دقيقة.
قال أحد الضيوف “أوو” متعجباً، وفي نهاية مجلسنا قال البابا لي:
أنا أقرأ القرآن كل يوم! قلت له: وأنا أقرأ الإنجيل والكتاب المقدس دائماً، ولي عليه ملاحظات لم أذكرها وكان جوابي مجملاً: أنا متفائل جداً في المستقبل القريب أن يكون هذا التلاقي الإسلامي المسيحي حقيقة وروحاً بننا من أجل إسعاد العالم وشعوبه وأرجو أن يكون لقاؤنا هذا لبنة في مخطط البناء، يجب أن نتعمق في الأمور المشتركة بيننا لنتقدم وأنا شخصياً متفائل في هذا اللقاء وأكثر من متفائل بل على يقين بأن ذلك سيكون خيراً للجميع، ويقع في قلبي أن لا يدخل القرن الواحد والعشرون إلا وسيلتقي أبناء الدينين الإسلامي والمسيحي من أجل مصلحة الإنسان ومن أجل جلاء الحقيقية.
رفع شيخنا صوته وتابع الأستاذ فاروق الترجمة قال شيخنا: أعتقد أننا نحن رجال الأديان مقصرون جداً وهذه العبارة قلتها بالحرف لسيادة البابا قلت له أولاً بطريق السؤال هل تدري يا سيادة البابا من خلق الشيوعية والإلحاد؟ سألني من؟ قلت له أنت! بعد ثوان من الصمت أكملت وأنا. ضحك شيخنا وتابع قائلاً:
أعتقد لو اصطلح رجال الدينين لما كان هناك نزاع، إننا نظلم الإسلام كمسلمين بانتسابنا إليه، وأعتقد أن المسيحية أيضاً تُظلم عندما تنتسب الشعوب المسيحية إليها، لو أتى سيدنا المسيح عليه السلام وسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ورأونا ورأوا سلوكنا لا أدري كيف سيواجهوننا وكيف سيقابلوننا وماذا سيقولون لنا؟
إن الدينَين يحتاجان إلى إصلاح جريء، وإلى تجديد لأن مفهومهما تقدم في السن مثلي ومثل ضيفي الكريم فقدنا جمال الشباب –ضحك شيخنا رحمه الله- ثم تابع: فقدنا نشاط الشباب وقوة الشباب كما فقد الدينان نشاطهما وقوتهما في عصرنا الحاضر، لذلك نحتاج لتجديد حقائقهما ومفهوم حقيقتهما، يقول الله في قرآننا العظيم { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ }([2]) ، وسيدنا المسيح لم يقل أقل من ذلك بل قال “أن تحب قريبك كما تحب نفسك” فهل هذا ما يعمله المسيحيون والمسلمون في عصرنا الحاضر؟
هل يعمل رجال الدين على هذا المستوى، وإذا كانوا يعملون حقاً بتعاليم الله أين ثمرة أعمالهم؟
صمت شيخنا ثم تابع: لذلك يجب على كل من يملك الطاقة أن يخطط للقاءٍ دائمٍ لتحقيق هذه الأهداف التي يحملها الدينان السماويان من أجل تحقيق السلام والإخاء العالمي بين الإنسان وأخيه الإنسان، يقول رسولنا الكريم:
«إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مئة سنة من يجدد لها دينها» ([3]).
أعتقد أن فكرة التجديد هذه الآن بذرة يجب أن نسقيها بجهودنا لنحقق التجديد، والمجدد لا يشترط أن يكون شخصاً واحداً، وبدأ الآن فكر التجديد في العالمين الإسلامي والمسيحي لكن لا يزال ضمن دائرة محدودة ينبغي أن تتوسع -ردد مبتسماً أهلاً وسهلاً ومرحباً- ثم سأل (كِنت كنبتري): في كتابكم آية (أفلا يتدبرون القرآن) كيف يكون هذا التدبر، ومن يقوم به يا ترى؟
هل هم رجال الدين الذين يفسرونه؟
رد شيخنا باسماً:
الموضوع بسيط جداً يعني (أفلا يتفهمون حقيقته) لأن الله تعالى قد خاطب الوثنيين بها وكفار قريش ويخاطب الله بها كل البشر بأن يستعملوا عقولهم ويقرؤون معانيه وحقائقه بفهم ليحولوه من كلام إلى واقع عملي شاهد منظور ومسموع للإنسان فكلنا مقصرون جداً فالتدبر لنعمل بمقتضاه، يقول الله تعالى:
{ وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ }([4]).
(ينهون عن المنكر) الشر الظلم الطغيان (أولئك): من يفعل هذا هم المفلحون حقاً.
إذا تدبرنا هذه الآية يجب أن يكون ثمرتها القيام بالدعوة إلى الخير والنهي عن الشر، والتعاون على ما فيه الرحمة بالإنسان، وعدم قيامنا بهذا يدل على عدم تدبرنا وفهمنا الفهم الحقيقي لها.
سأل الضيف عن الآية { أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ }([5]).
هل الإسلام هو علاقة خاصة بين الإنسان وربه أم الإسلام كمؤسسة قائمة بكل قوانينها ومراسيمها العبادية السياسية؟
أجاب شيخنا مُرحباً: معنى الإسلام في الحقيقة كما هو متفق عليه الاستجابة والامتثال لكل أوامر الله تعالى فكل من يستجيب لأوامر الله تعالى كلها يكون أسلم إسلاماً كلياً يقول الله عز وجل في كتابه الكريم في سورة البقرة:{ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ }([6]).
من (نحن) من قال هذا يعقوب الذي هو إسرائيل { أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ}([7]).
أي: يشرح الله صدره (للاستجابة) لأوامر الله تعالى التي أتى بها الإسلام فأثمر ذلك نوراً في قلبه، لما سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن معنى شرح الله الصدر هل له من علامة فقال: الإنابة إلى دار الخلود، والتجافي عن دار الغرور، يعني ألا يكون الإنسان عبداً لجسده عبداً لشهواته، والاستعداد للموت قبل أن يأتي الاستعداد والتهيؤ والزوادة لسفرة السماء فالإسلام كما يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «ليس الإيمان بالتمنِّي ولا بالتحلِّي ولكن هو ما وقر في القلب وصدقه العمل»([8]).
شكر الضيوف شيخنا ثم قدم لهم هدية كتابه (The way of Truth) قائلاً: هذه محاضرات ألقيتها في مؤتمرات عالمية في بلدان مختلفة من أوربا وأمريكا …
انصرف الضيوف وجلس شيخنا سعيداً بأداء الأمانة وقال: يدرسون القرآن ويريدون أن يفهموا، يا حسرة على المسلمين يقرؤون ولا يفهمون ولا يريدون أن يفهموا.
([1]) صحيح البخاري: 3535، كتاب المناقب: باب خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم.
([2]) سورة الأنبياء، الآية: (107).
([3]) سنن أبي داود: 4291/كتاب الملاحم باب: ما يذكر في قرن المئة.
([4]) سورة آل عمران، الآية: (104).
([5]) سورة الزمر، الآية: (22).
([6]) سورة البقرة، الآية: (133).