ثمرك و حصادك
بعد درس الجمعة الذي استمر ما يقارب الساعتين..
وبعد تأخر شيخنا أكثر من ساعة مع وفود وإخوان جاؤوا من خارج دمشق، سألني أحد الإخوان الكبار في الجامع:
كيف سيكون حال شيخنا بعد هذا الجهد؟
والله إنني أدخل بيتي بعد العمل في المجمع، فأقول السلام عليكم إيماءً، تسألني زوجتي: هل تريد أن تأكل؟ هل تريد أن تنام؟… أومئ برأسي فقط، ولا أستطيع أن أتكلم حتى الصباح، ليس لدي القدرة على مناقشة أي أمر لأنه لا وقت لدي، حتى حوائجي هناك من يشتريها لي!.
قلت له: سبحان الله، أنت في منتصف عمر شيخنا، وشيخنا رغم تعبه بعد درس الجمعة ورغم الجهد الذي يبذله غالباً في استقبال ومجاملة الضيوف ومحادثة الوفود والرد على أسئلتهم والاطمئنان على أمور الجامع والمجمع يدخل السيارة مرَّحِباً بي وبمن في السيارة ويسألني عن حالي، وعندما أسأله مشفقة، كيف حالك أنت سيدي؟ يقول مطمئناً ومبتسماً كعادته: (الحمد لله كله تمام، ضغطي بعد الدرس أفضل، وأنا أحس بنشاط. الحمد لله).
مع أنه غالباً ما يكون قد غادر المزرعة متعباً أو ضغطه مرتفعاً.
ومع ذلك لا أكاد أسمع منه كلمة: إنني متعب، أو لا أستطيع أن أتكلم الآن إلا فيما ندر وذلك عندما يكون ألمه قد تجاوز كل حد.
وفي طريق العودة للمزرعة يسألني:
(ماذا كان الدرس؟ وما هي الآيات والأحاديث؟ وما هي الومضات التي اصطدتها؟).
وكان يسعد كثيراً عندما أسرد له الدرس والأفكار التي حواها والعبارات الموجزة الجامعة لأفكاره العظيمة والتي سمعتها بقلبي قبل أذني، ثم ألخص له التمهيد والعرض والأمثلة والحلول والتسلسل المنطقي لكل منها، فيضحك ويقول:
(أصبحتِ شيخة كبيرة، رعاك الله وحماك، وجعلك في خدمة دينه اللهم آمين، الحمد لله لقد جئت سداداً من عوز، لقد جئت في الوقت المناسب، لقد امتن الله عليَّ بكِ، كنت آمل كثيراً أن أحظى بزوجة مثقفة تفهمني وتملك هذا الحسّ المرهف لفهم ما أريد ولإيصاله للآخرين، ما شاء الله ما شاء الله).
عندها أضحك وأقول: هذا كله ثمرك وحصادك.
فيقول سعيداً وقد نسي تعبه:
({وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ } ([1])، أرجو أن تكوني أبداً صدقة جارية في صحيفتي).
فأمتلئ سعادة وأحمد الله على توفيقه وفضله راجية منه الثبات.
وعند الغداء يجلس حامداً شاكراً الله على نعمه مستمعاً للأخبار، مشفقاً على حال المسلمين، متحسراً على هذا الجهاز العظيم “التلفاز” الذي جعلوه للتسلية واللهو حتى يغفو المسلمون في نومهم أكثر، وحتى يبتعدوا عن دينهم ويغرقوا في الملذات والأهواء فينسوا مسؤوليتهم في الدعوة إلى الله وفي العودة إلى الله.
وكان يردد دائماً:
(عجباً لقومي والعدو ببابهم كيف استطاعوا اللهو واللعب)
ويقول: (لو استعملوا هذا الجهاز لعرض الإسلام العرض الحقيقي، ولتربية الأخلاق، لعمَّ السلام في الأرض ولعادت الأخلاق وانتهت الحروب).
ويتابع: (أنا متفائل، سيكون لهذا الجهاز مستقبل أفضل من هذا بكثير، لكن إذا استيقظ ضمير الإعلاميين وحوّلوه لأداة هادفة لسعادة المجتمع وإيمانه وارتقائه، لا بد أن يأتي هذا اليوم ويكون التلفاز معلماً للملايين وعندها نكون قد اختصرنا الطريق الطويل لإيقاظ العالم وإصلاحه.
إن شاء الله، إن شاء الله).
ثم يمسح وجهه بيديه داعياً الله أن يحقق الهدف.