الصبر ليس انتظار الفرج دون عمل
زارتنا أخت محبّة لشيخنا توفي زوجها شاباً وترك لها ولداً وحيداً في أول مراهقته وهي ذات قلة وغالباً ما يرفدها شيخنا ببعض المال والمؤونة وكنت مع الشيخ في الغرفة نقرأ معاً وعندما وصلت رحب بها شيخنا وقال وكأنه يتابع حديثه معي:
بابا الإسلام حركة، الإسلام عمل لا تكونوا جمادى الأول وجمادى الثاني، كونوا ربيع الأول والتفت إليها: أنا أستطيع أن أساعدك ولكن حركي حالك، رسولنا الكريم يقول: «إن الله تعالى يلوم على العجز ولكن عليك بالكيّس، فإذا غلبك أمر فقل حسبي الله ونعم الوكيل»([1]).
بذل الجهد والعمل والتفكير وإنماء العقل فيما يفيد هذا هو الإسلام قالت: ماذا أشتغل زوَّجني والدي أثناء امتحان الثانوية العامة سامحه الله كنت ابنته السادسة ووجد والدي فرصة ليتخلص من عبئي على كاهله.
نظر إليها شيخنا بود وحنان وقال: يا بنتي تعلمي قص الشعر، تعلمي الخياطة، اشتري ألبسة من المعامل وتاجري بها، اعملي أي شيء شاي قهوة حلويات ولو بسعر رخيص أولاً حتى يصبح لك رأس مال بسيط لبداية جديدة فتبدئين حياتك بشكل أفضل إن شاء الله، الصبر ليس انتظار الفرج دون عمل، الفرج لا يأتي إلا عندما نعمل ونتوكل على الله الصبر للتفكر في الأفضل وليس الصبر على الموجود، وعلى الوضع نفسه، بل القيام بكل تدبير يوصل للنجاح أنت تستطيعين وإرادتك قوية وستنجحين.
ثم أعطاها بعض المال قائلاً: هذا رأس مال صغير لبداية جديدة خرجت شاكرة تدعو له.
قلت لها: فعلاً حاولي أن تعملي شيئاً قالت سامح الله والدي أعطاني لقريبه وهو يعلم أنه مريض قلب وكان يعمل والحمد لله ولكنه توفي وترك لي هذا الصغير، صدقيني لا أعرف عمل شيء طوال الوقت أصلي وأصوم وأدعو الله ثم بدأت بالبكاء منذ سنة وأنا على هذه الحال قلت لها اعملي أي شيء كما قال شيخنا ولو شاي أو قهوة فشيخنا لن يدوم لنا ودعتني وهي تشد بيدها على المبلغ الذي أخذته وتقول: ادعي لي يا حجّة والله صابرة.
قلت: الله أراد لنا جميعاً كل الخير ووضع لنا طريق السعادة والدين ليس مقتصراً على الصلاة والصوم بل هو تفكر وبذل الجهد والعمل كما قال شيخنا لا يوجد إيمان بلا عمل وبذل جهد فالإيمان يدلك على طريق السعادة.
عدت إلى شيخنا وأنا حزينة لأجلها وبعد فترة طويلة صادفتها في الجامع فطلبت مني محادثتها على انفراد –ظننتها تريد المساعدة- فقالت بفرح: أخبري شيخنا أنني أشتغل الآن فبعد أن خرجت من عندكم وأنا حقاً أفكر ماذا أستطيع أن أعمل كان هناك خياط بجانبنا فمررت عليه وعرضت عليه مساعدته في تقصير بعض الملابس حيث لم أكن أجيد غير ذلك فما كان منه إلا أن صارحني بوضع الشباب الذين يعملون عنده فهم كسالى لا يجيدون حتى صنع القهوة وكم هو صابر عليهم لأنهم أيتام. رنّت كلمة شيخنا في أذني شاي قهوة قلت له: إنني ماهرة في صنع القهوة ولو أردت سأقوم بعمل قهوة جيدة لك كل يوم فوالدي رحمه الله كان لا يحب إلا القهوة التي أصنعها.
سُرّ الخياط لهذا الأمر وقال حسناً ولكن كل شيء بثمنه قلت في نفسي وهذا ما أريده.
ذهبت إلى البيت وفي طريقي اشتريت أفضل أنواع البن والهيل وحدثتني نفسي: مال شيخنا مبارك وسيبارك الله لي فيه إن شاء الله.
جاء ولدي وشم رائحة القهوة وقال: ما شاء الله قهوة منذ متى؟ فأخبرته بما جرى مع الخياط ودعوت الله أن يوفقني وتفاءلت والحمد لله صار عندي زبائن للقهوة أكثر من عشرين محلاً كان الخياط قد دلهم عليّ حتى صرت أحمل عدة ترامس يومياً وأوصلها ثم اشتريت دراجة لابني فصار يوصل ترامس القهوة وتوسع عملي إلى إعداد الشاي والكعك الفلسطيني والكبب واليبرق وغيرها وأنا الآن في يسر اشتريت البيت الذي أسكنه بالتقسيط بعد أن كنت أسكن في غرفة واحدة منه بحمام مشترك.
جزى الله عنا شيخنا والله له فضل كبير عليّ، والحمد لله ابني نجح في امتحان الثانوية بمعدل جيّد وحالياً يدرس ويعمل ويساعدني، تغير حالنا كثيراً ثم تابعت قولها بخجل: وصدقيني صرت أتصدق من مالي وكل هذا ببركة شيخنا وحكمته ووصاياه.
([1]) سنن أبي داود: 3627، كتاب القضاء، باب الرجل يحلف على حقه.