التابع يقوده الآخرون إلى حيث يريدون
في أوائل التسعينات ومن بداية زواجنا، كان شيخنا يشكو ألماً في صدره في عظم القص بعد تعرُّضه لبرد شديد في سيارة مكسورة النافذة أثناء مرافقته لوالده الشيخ أمين -رحمه الله- إلى بيروت.
ولكنَّ الألم كان يزداد أحياناً، فيُسبِّب حيرةً للأطباء الذين ارتأوا أخيراً أن يضعوا جهازاً ملاصقاً لقلبه موصولاً بقارئ لخطوط القلب لمعرفة مصدر ذلك الألم، وحتى يتأكدوا بأنَّ هذا الألم ليس ناشئاً عن ضعف في القلب أو عن قرحة هاجعة في معدته.
طلب الأطباء من شيخنا الرّاحة التامة، وعدم استقبال الضيوف.
وطلبوا مني مراقبة ذلك وتسجيل كل التغيرات.
لم يدم الأمر طويلاً في المزرعة، لأن كثيرين من أحباب الشيخ وإخوانه كانوا يريدون مقابلته، وكنتُ عندما أتدخل في الأمر تزدادُ مضايقة البعض لي، حتى وصل الأمر بأحدهم أن اتهمني بأنني أبعد الشيخ عنهم!. أو أحجزه لنفسي فقط، أو…الخ.
فما كان من الأطباء إلا أن طلبوا منه الذهاب إلى منزل أحد إخوانه خارج المدينة، علَّه يحظى ببعض الرَّاحة ويتسنى لي مراقبةُ قلبه عبر الجهاز لمعرفة سبب الألم.
مكثنا وحدنا والسعادة تغمرُ قلبي، وكنت أرعاه محاولةً تسليته بشتَّى الوسائل، حيثُ كان يفتقدُ دعوته وإخوانه، وكان ينظر إلي مبتسماً ويقول:
(يا لكِ من قنبُرة خلا لك الجـوُّ فبيضي واصْفري
ونقِّري ما شئت أن تنقري لا بُدَّ يوماً أن تُصادي فاحذري)
فأقول ضاحكة: هذا ما أراده الأطبَّاء!…
دامت إقامتنا أكثر من أسبوع.
كان هناك من يقوم على خدمتنا، وتأمين طلباتنا، ولم يستطع أحدٌ الوصول إلينا أو زيارتنا.. وأنا أسجل ساعة بساعة وقت مرور الألم أو ازدياده.
كنَّا نتمشَّى يومياً ونقرأ أو نكتب معاً.
والحمدُ لله فقد خفَّ الألم كثيراً ولم يعاوده.
وفي منتصف آخر ليلةٍ أحسستُ بيده تبحث عن علبة الدواء، فأوقعها على الأرض مُحدثة صوتاً، وتبعثر الدَّواء.
أضأتُ النور، فقال معتذراً:
(عفواً هل أيقظتك؟).
جلست بسرعة وقلت: أرجوك سيدنا عمَّا تبحث؟.. ماذا تريد؟..
قال وهو يتنفَّس بصعوبة ضاغطاً على مكان الألم: (هاتِ حبَّة “فاليوم”).
قفزتُ وأنا أبحث عن العُلبة، وأعطيتُه الحبَّة.
أعدتُ حبات الدواء إلى العلبة وأنا أسأله: ما الذي حدث؟!.. أرجوك ما بك يا حبيبي؟!..
قال: (الألم نفسه…).
أخذتُ بخاخ العطر، وصرتُ أرطِّب مكان الألم به.
جلس معتدلاً في السرير، وهو يضغط مكان الألم، وقال بتهدُّج: (لقد رأيت نفسي في اجتماع مع كبار المسؤولين، وكانت مناقشة حامية بيني وبين أحدهم.. قلت له: نحن لا نريد فلسفات لا يدري نتيجتها إلا الله.. نريد حلولاً سريعة، وواقعنا يفرض علينا أن نبدأ وننقذ بلادنا.. الكلُّ يخطط لفسادنا وإهلاكنا واستغلال ثرواتنا.. نحن نخسر الوقت، وليس في صالحنا أن نجرِّب هذا البرنامج أو ذاك المنهج.
نحن لدينا مُخطط من الله؛ نحن قومٌ أعزَّنا الله بالإسلام، ومهما نُرد القوة بغيره يذلنا الله، ماذا كانوا؟!.. وماذا صاروا بالإسلام؟!.).
نظرتُ إليه بدهشةٍ قائلة: سيدنا أرجوك..!.
ثم تابع: (ذكرتُ له أننا الآن كطاحون الرَّحى تدور ليلاً ونهاراً، ولكن لا تتقدَّم شبراً.. لقد خطط الله لنا، ويجبُ أن نبقى ضمن هذا المخطط الإلهي.
التابع يقوده الآخرون إلى حيث يريدون، والتقليد إبطالٌ للعقل.. ألا يجب أخيراً أن نُبعث من قبور غفلاتنا؟.. من قبور جهالاتنا…! من قيود تقليدنا للآخرين..! ألا يجب أن نتحرر من تقزيم شخصيتنا..!).
كان يضغط على مكان الألم ولكنهَّ تابع: (الله لا يدلُّنا على شيء نخسرُ فيه، أمَّا النفسُ والهوى والأنانية وتحنيط العقل فلن توصلنا إلاَّ للخسارة الأكيدة).
الله لا يدلُّنا على شيء نخسرُ فيه، أمَّا النفسُ والهوى فلن توصلنا إلاَّ للخسارة الأكيدة
كنت أنظر إليه بدهشةٍ وحُزن وهمستُ له: حبيبي لقد تحمَّلتُ اتهاماتٍ لا يعلمُها إلا الله، لأُجَنِّبك الضيوف، ولأخفف عنك إرهاق الاجتماع إليهم حتى ترتاح، فكيف لي أن أُبعدَ عنك ضيوف الأحلام؟!..
ألا ترتاح قليلاً؟!.. والله حيَّرتني!.. ماذا أقول للطبيب؟!..
مسح على رأسي بودٍّ وقال: (يا بنتي؛ لا دواء لقلبي سوى نجاح الإسلام، وعودتنا إليه، وقيامنا بالدعوة ليلاً ونهاراً).
نظرتُ إليه حيرى قائلة: والآن ماذا نفعل؟.
أغمض عينيه، وهو يتذكر الجلسة والحديث الذي دار..، فسألتُهُ بحنان: هل أحضر لك شيئاً؟… ثم قمتُ وأعطيته ملعقة عسل يضعها تحت لسانه.
وصرتُ أضعُ له كمَّادات باردة على مكان الألم فخفَّ قليلاً، وربَّتَ على كتفي قائلاً: (الله يرضى عليك، لقد جئت سداداً من عوز، لقد أرسلك الله لي في الوقت المناسب لتخفِّفي عنّي، رضي الله عليك وعلى والديك وعلى الشيخ رمضان).
سألته: هل نتمشَّى قليلاً…؟ لأنَّ هذا كان يُخفف الألم أيضاً.
كان الهواء منعشاً…، قمنا إلى الشُّرفة، تمشينا وهو يتابع حديثه: (يا بنتي؛ الرَّجُل الرجل..، هو الذي يؤثِّر في زمانه ولا يتأثَّر بزمانه.. ما لا نتعلمه من الحكمة قد نتعلمه من المصائب والمشاكل التي ستحلُّ بنا من كل جانب، ولكن بعد فوات الأوان!…
ما لا نتعلمه من الحكمة قد نتعلمه من المصائب والمشاكل التي ستحلُّ بنا من كل جانب
الرَّجُل الرجل..، هو الذي يؤثِّر في زمانه ولا يتأثَّر بزمانه
يا بنتي طريق الورد أوله الشوك، ولكنَّ المجد في آخره…).
فصِرتُ أردِّدُ: الله يحميك بحِماه، يا سيدنا صحتك الآن هي الأهمّ… أنت رجل الإسلام، فإذا ذهب رجاله ضاع، لا بُدَّ أن تحرص على صحتك…
تابع وكأنَّه لم يسمعني: (الطفل يضع نفسه في الخطر لأنه جاهل ولأنه يستعمل حاسَّة واحدة حتى يفهم الأمور.
أما الرجل إذا كان عقله كبيراً، فيستعمل كل حواسه وعقله وبالعلم والاستقراء والدراسة يكتشف حقيقة الأمور ويتدبر نتائجها.
صلى الله على سيدنا محمد: «إذا أردتَ أمراً فتدبَّر عاقبته»([1]).
للأسف المسلمون الآن رجال الأجساد أطفال العقول.. بالإسلام والإيمان يصبح الطفل رجلاً فيعرف الحقائق ويتفهَّم برنامج الله الذي يوصلنا إلى النجاح يقيناً.. ولكنْ لا بُدَّ من المعلم المربي الذي يعلِّم الإسلام الحقيقي بحاله وعمله وقالِهِ وأخلاقِهِ).
جلسنا قليلاً…، كان الجوُّ رائعاً والقمرُ بدراً، صارَ يتنفس بقوّة وقال: (الحمد لله ذهب الألم).
نظرَ إلى السَّماء وقال: (ما شاء الله.. ما شاء الله..، البدر كامل).
فقلتُ لهُ مما علمني إيّاه:
بدْري أرقُّ معالماً والفرقُ مثلُ الصُّبح ظاهرُ
ضحك مسروراً وقال:
(الله يرضى عليك وعلى فادي)… كان إذا سُرَّ مني يدعو لابني “فادي” حتى يُفرِحَني.
سُرِرْتُ حقاً وقلتُ: ما أروعَكَ وألطفك!…
أنا أغبط نفسي عليك وعلى لطفك وحنانك.
فقال: (يا بنتي قانون الله: هل جزاء الإحسان إلا الإحسان؟!. ونبينا r يقول: «من أسدى إليكم معروفاً فكافئوه، فإن لم تستطيعوا فاذكروه، فمَنْ ذكره فقد شكره ومن كتمه فقد كفره»([2]).
يا بنتي أفلا أكون عبداً شكوراً).
ردَّدت: الحمدُ لله.. الحمدُ لله…، ثم تمشَّينا إلى الغرفة وسُرعان ما ذهب في نوم عميق براحةٍ وهدوء.
صيف 1994
([1]) حديث عبد الله بن المسور الهاشمي: أخرجه ابن المبارك (1/14 رقم 41)، وهناد (1/301 رقم 531).
([2]) أخرجه أبو داود والنسائي من حديث ابن عمر بإسناد صحيح، بلفظ: «من صنع…».