البعض لا تنقصه الحقيقة
جاءنا مرة بروفيسور أمريكي تعرف على شيخنا عن طريق الإنترنيت عندما قرأ كتابه (The Way of Truth) طريق الحق أدهشه الفكر الإسلامي الرائع، وأعجب بطريقة شيخنا في عرض الإسلام وتفهم الأديان كلها، فراسل المجمع وأعلن إسلامه، ثم جاء إلى دمشق والتقى بشيخنا في المزرعة وأعلن إسلامه أمامه وجلس مع شيخنا ينهل من علمه، ويستفسر عن بعض الإشكالات التي طالما شغلت فكره، ولم يجد لها جواباً في دينه السابق.
كان شيخنا يستفيض في الشرح، ثم ما لبث أن علمه ذكر الله ودله على الإخوان ليساعدوه في كل أموره.
قبل سفره جاءنا مودعاً، فأقبل عليه شيخنا بسرور لم أعهده مع إنسان آخر، واغرورقت عيناه وعينا شيخنا بالدموع.
قال الضيف: صدقني أحسك معي دائماً خاصةً في حالات الذكر، أراك ولا أنسى عينيك ونظراتك وكأنها اخترقت قلبي.
بشّ له شيخنا وقبّل رأسه وجلس يحادثه (عن محبة الله، وكيف أن ذكر الله وطاعته ترقى بالمسلم فتحيا روحه بحواس روحانية تختلف عن حواس الجسد المعروفة، فتفتح نوافذ القلب والعقل فيبصر حقائق الحياة ويتجه للخير، فتسمو روحه وتحلق مع بارئها، وتصبح الصلاة صلةً وتواصلاً ووصالاً مع العظيم، ويعيش المسلم مع الله لتصبح راحته وسعادته بها وتصبح حاجته إليها أكثر من حاجته إلى الطعام والشراب، ولذلك كان نبينا الكريم r يقول لمؤذنه بلال: «أرحنا بها يا بلال»([1])، فلا راحة إلا بلقاء الله).
ثم حدثه (أن الأديان ما جاءت إلا لسعادة الإنسان كل الإنسان، وكل عقيدة تخرج عن هذا الإطار تعتبر خروجاً عن الإطار الذي جاء به الأنبياء والذي أوصى به الله، وأن كل ما يخالف قواعد العقل والحقيقة هو خارج عن إطار وحي السماء وجوهر الدين لأن أديان السماء لا تناقض بينها، وإذا وجد التناقض فهو بسبب تأويلات رجال الدين ومغالاتهم، فلا يوجد في هذه الحياة شيء يؤثر على الإنسان كتأثير الإيمان على عقل الإنسان وتطوير حياته إلى الأفضل، لذلك حضَّ الإسلام على التقدم في كل لحظة، وفي كل يوم، فقال رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم: «من استوى يوماه فهو مغبون، ومن كان أمسه خيراً من يومه فهو محروم، ومن لم يكن في زيادة فهو في نقصان، ومن كان في نقصان فبطن الأرض خير له…»([2])).
وتابع شيخنا حانياً: (لقد وضع الإنسان عبر مسيرة حياته على الأرض مبادئ كثيرة أرضية وكلها زالت لأن مصدرها من الخلق لا من الخالق ومن الأرض لا من السماء. ولكن الأديان رغم ما دخل عليها من مشوهات شوهت جمالها ومع كل هذا بقيت خالدة.
ولو أمكن عرضها إعلامياً مصفاة من الشوائب التي تخالف العقل والحقائق العلمية لما استطاع أي إنسان في العالم أن يرفضها، بل لعشقها، فكما لا يمكن للعين أن تكره الجمال، ولا للأنف أن يرفض الروائح العطرة، ولا للأذن ألا تطرب لأصوات العصافير، كذلك النفس والعقل الإنساني لا يمكنه أن يرفض الحقائق الإلهية التي سلمت من تشويه الإنسان وعدم فهمه.
النفس والعقل الإنساني لا يمكنه أن يرفض الحقائق الإلهية التي سلمت من تشويه الإنسان
إن خلود القرآن إلى يومنا هذا وعدم تحريفه جعل كل من يطلع عليه ويفهمه يصل إلى الإيمان به ويستشعر أنه من خالق الخلق). كان الضيف يكتب كل كلمة يقولها شيخنا بعد أن يشرحها المترجم ويهز رأسه موافقاً لكل ما يقول، ثم قال: سبحان الله إننا غارقون في أمورنا العملية اليومية لذلك لا يتسنى لنا الوقت لننظر إلى أنفسنا كثيراً، حتى إننا لا نعرف كيف نسعد أنفسنا، فعلاً كنت تعيساً، فالجانب الروحي في حياتنا يكاد يكون معدوماً وهذا سبب بلاء كل المجتمعات الغربية. وتابع بانشراح: لقد سعدت بالإسلام حقاً، ولو تسنى للآخرين ما تسنى لي لنعموا بالصلة الإلهية. ثم أمسك يد شيخنا بحنان وقال: شكراً لكم، أنتم أحييتم روحي، وأعدتم التوازن لحياتي، أعدكم بالعودة مراراً حتى أزداد قرباً من الله وفهماً للدين، وادعوا لي أن أبلغ الرسالة إلى من حولي. قال شيخنا مبتسماً: (الكلمة الحقة الحكيمة قد تلقى في بداياتها صعوبة كأية ولادة، ولكن بعدها تتحول الآلام إلى فرح وسرور. لا شيء مقدس إلا الحقيقة، والله هو الحق، ويجب أن نبدأ ونقرر البدء بتعريف الآخرين بما يسعدهم حقاً). صمت الضيف مفكراً وهو يدون كلمات شيخنا في مفكرته ثم قال بتضرع: سؤال أخير يا شيخنا. سألت الكثير من رجال الدين عن موضوع التدخين، منهم من حرمه ومنهم لم يحرمه، بل جعله مكروهاً، وأريد أن أسألك ما رأيكم بالتدخين؟ ضحك شيخنا ونظر إليه ملياً وقال: (ما رأي العلم في التدخين). بهت الضيف، كان يظن أن شيخنا سيقول: حرام، أو لا بأس مكروه. قال الضيف بعد إطراقه: فعلاً العلم أثبت ضرره الشديد. فقال شيخنا: (الدين لا يتناقض مع العلم، بل يسترشد به ويتفق معه، إذا قال العلم أن هذا مضر، فالإسلام يقول: «لا ضرر ولا ضرار»([3]).الدين لا يتناقض مع العلم، بل يسترشد به ويتفق معه
وعلمت أيضاً أن الذي يستنشق رائحة الدخان مع أنه لا يكون مدخناً يحصل له ضرر كبير!). قال الضيف: هذا صحيح، هذه حقيقة علمية. قال شيخنا: (البعض لا تنقصه الحقيقة أو العلم، ولكن ينقصه تجاوز أهوائه وشهواته لينقاد للحق والهدى).البعض لا تنقصه الحقيقة أو العلم، ولكن ينقصه تجاوز أهوائه وشهواته لينقاد للحق والهدى
فقال الضيف: شكراً شكراً، جوابكم حكيم، فعلاً أنتم شيخ الحكمة. ودّع الضيف شيخنا ولامست شفتاه ركبة شيخنا وهو يقول: حماك الله للإسلام وأسعدنا بلقياك دائماً. ([1]) سنن أبي داود عن سالم بن أبي الجعد بلفظ: «يا بلال أقم الصلاة أرحنا بها». ([2]) حلية الأولياء. ([3]) موطأ مالك، مسند أحمد.