Skip to content
الأهم خروجنا من أمية السماء

الأهم خروجنا من أمية السماء

الشيخ أحمد كفتارونال بعض الإخوان والأخوات درجة الدكتوراه في العلوم الشرعية من مجمع شيخنا، فجاؤوا ليزفُّوا إليه بشرى نجاحهم، ولِيُدخِلوا السُّرور والسَّعادة على قلبه، بثمرةِ تعبه وجهده.

دخلوا إله فرحين مسلِّمين، رفع يديه رادّاً التحية باشَّاً: (أهلاً وسهلاً، أهلاً وسهلاً، أهلاً وسهلاً… السلام عليكم ورحمة الله وبركاته).

وابتسم وقال بقوَّة: (كان الصحابة أمّيّين، لا كتب ولا مكتبات ولا برامج ولا شهادات).

غصَّ الأخوة طرْفَهم حياءً..

فتابع شيخنا: (كما قال الشاعر:

كانوا رعاة جمال قبل نهضتهم   …….)

وصَمَتَ حتى يردِّدوا معه تتمة بيت الشعر، فقالوا وقد نظروا حيارى:

“……..   وبعدها ملؤوا الآفاق تمدينا

تابع شيخنا: (عِلْمُهُم أنتج الأخلاق في قِمَّتِها، وأنتج العزَّة والكرامة في ذروتها، وأنتج الغنى والثروة بأعظم وسْعَتِها.. ووحَّد الأمة بأقوى ما تكون، وما عرفوا الهزائم في معركة مع أغنى دول العالم، وأعظمها جبروتاً وعدداً وعُدَّة.

هذا كله أتى من صُحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن العلم الذي وضَّحه المفهوم القرآني: { وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ } ([1]).

وهذا العلم الرَّباني دعاهم ليكونوا ورثة حقيقيين لرسول الله صلى الله عليه وسلم في تبليغ الدعوة والإسلام إلى مشارق الأرض ومغاربها.

حملوا الإسلام دعوة وجهاداً وتبليغاً حتى وصل الإسلام إلى ما وصل إليه، ونحن ماذا فعلنا؟!، وماذا يجب أن نفعل؟..).

نظر إليهم بحنان وتابع: (منهاج الله للنَّجاح والنَّصر جاهز.. فماذا فعلنا به؟.. نقرؤه بركةً وأنغاماً وتجويداً.

عندما نهزم الجهل والجاهلية في نفوسنا وفي غيرها بالحكمة والموعظة الحسنة، نصبح ذلك الإنسان الرباني الذي أراده الله لنا، ونرفض أن نكون الإنسان الحيواني.

فلا يكون همُّنا مثل الدَّواب: أكلٌ وشربٌ وتوالد وتزاوج ودفاعٌ عن حياة الجسد. بل نكون كما قال الله تعالى: { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا}([2]).

عندئذٍ نكون مصابيح للهداية في ظلمات الليالي والأيام، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «العلماء مصابيح الأرض، وخلفاء الأنبياء، وورثتي وورثة الأنبياء»([3])، «إنَّ العالم ليستغفر له من في السموات ومن في الأرض والحيتان في جوف الماء»([4])

كرر شيخنا، (يقول الله تعالى:

{وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} ([5]).

فالتقوى: علمٌ وعملٌ بامتثال أوامر الله، والبُعدُ عن كلِّ ما نهى الله، وتقوى القلوب خاصة للخواص.

تقوى القلب بأن لا يغفل عن ذكر الله، وألا يحبَّ شيئاً أكثر من الله. وهذا معنى أن تشهد ألا إله إلا الله، لا أن تقول وتُردِّد فقط: لا إله إلا الله؛ أي لا معبود إلا الله، ولا مُطاع إلا الله… لا هَمَّ لك سوى رضاء الله… عندها يقذفُ الله في قلبك النور والعلوم.

الدَّعوى والادّعاء سهل… أن تدعي أنَّك وزير!.. قد يطاوعك لسانك.. ولكن هل يُصدِّقك الآخرون؟..).

ثم نظر إليهم بحنان قائلاً: (أحبابي، جُدُّوا واجْتَهِدوا… الشَّهادة قراءةٌ وإطارٌ ولا بُدَّ منها، ولكنها لا تُوجِد الإيمان، ولا تغمرُ القلبَ بمحبّة الله… الدنيا منامٌ والعُمرُ يمضي… والزمان لا يصنعُ الإنسان، بل الإنسان هو الذي يصنع الزَّمان… يصنعُ حاضِرَهُ وغدَهُ، ومستقبله الدنيوي والأخروي، لما قاله تعالى: { وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ}([6]).

الزمان لا يصنعُ الإنسان، بل الإنسان هو الذي يصنع الزَّمان

يعني افحص أعمالك قبل أن يأتي الموت… الموتُ ليس عدماً، الموتُ حساب… يعني صار وقت الحساب كما يقول الشاعر:

ولو أنَّا إذا متنا تركنا         لكانَ الموتُ راحةَ كلِّ حيّ

ولكنَّا  إذا  متنا  بُعثنا        ونسألُ بعدَها عن كلِّ شي

الإنسان يُشرِّف الزمان ويقدِّسه بهمَّتِه وهدفه وعمله وثمراته… أشرف العصور صنَعَها محمد صلى الله عليه وسلم ولولا سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ما قيمة العرب؟!.. كل العرب؟!.

الإنسان يُشرِّف الزمان ويقدِّسه بهمَّتِه وهدفه وعمله وثمراته

لولا سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ما قيمة العرب؟!.. كل العرب؟!

أحد العلماء الأجانب يقولُ: “لو وُجِدَ للغة اللاتينية كتابٌ مقدس كالقرآن لما تفرَّقت اللغة اللاتينية إلى عشرين لغة”.

عصر القومية دسيسة دسَّها الأعداء ليفرِّقونا… الإسلام يقدِّس الوطن والعروبة، فإذا خان المسلم الوطن فقد خان إسلامه.

يقول رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم: «حبُّ العرب إيمان وبغضهم نفاق، فمن أحبهم فبحبِّي أحبَّهم»([7])).

نظر إليهم بحنان وقال: (أبنائي؛ الإنسان بأصغريه قلبه ولسانه، ولا شيء يُنال بالتمنِّي والكسل، جِدُّوا واجتهدوا واعملوا لتصلوا إلى ما وصل الأوائل).

كانوا يرنون إليه بحبٍّ وخجل، وتكلموا بصوتٍ خفيض: إن شاء الله.. إن شاء الله.

فردَّ بحماس: (لقد شاء الله هدايتنا، وأرسل لنا كتابَهُ ورسالته مع حبيبه المصطفى محمد صلى الله عليه وسلم، شاءَ اللهُ وقدَّر لنا كلَّ الخير.

المهم أن تكون مشيئتكم كما يحبُّ الله وكما يرضى).

تنهَّد وصمتَ قليلاً ثم تابع: (الفرق بين الرِّجال عند الإرادة.. يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «صوت أبي طلحة في الجيش خير من ألف رجل»([8])، صوته لا سيفه، فكيف بشخصِهِ كله؟!… الإسلام صنع الإنسان الفولاذي: ليسانس.. ماجستير.. دكتوراه.. ثم مدرسة الروح والقلب والعقل.

المهم أن نخرج من أميّة السماء.. وبعدما حصَّلتموه من درجات العلم، عودوا لِلْمَسْبَحَةِ، لذكر الله بالخلوة مع الله، والعكوف والإنابة إليه.. خذوا دكتوراه في القلب، في ثقافة الروح، في تذوّق حب الله، في الشعور بمعيَّة الله ومراقبته لنا في كل أمورنا.

آمل من الله أن يحقق فيكم أملي ولا يُضيّع تعبي، وتكونوا دعاة حقيقيين علماً وتعليماً وأخلاقاً وحالاً، قدِّروا النعمة التي أنتم فيها، وقدِّروا فضل الله عليكم، واشكروه عملاً وقولاً وقلباً، كما قال تعالى:

{ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا} ([9]).

لا تكونوا مِمَّن قال فيهم الشاعر:

فهذا الذي إن عاش لا يُحتفى به

وإن ماتَ لم تحزن عليه أقاربه

ليكن لكم بصمة نورانيّة في المجتمع عامَّة وعلى من حولكم خاصة).

ليكن لكم بصمة نورانيّة في المجتمع عامَّة وعلى من حولكم خاصة

صمت الشيخ قليلاً، ثم تابع بحزن: (في أوائل شبابي عندما جاء الاحتلال الفرنسيّ، دعاني العلماء والمشايخ إلى قراءة صحيح البخاري  بنية تفريج الكرب… دُهشْتُ وخجلتُ!… وأنا يافعٌ بالنسبة لهم، وقلت لهم: كيف فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في مثل هذا الظَّرف؟ هيّأ السِّلاح!.. حفر الخندق!.. لبس الدرعين!.. قام بالتحضير للحرب بإعداد العدَّة للدِّفاع وصدِّ العدوان… أين فقه: {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ} ([10])؟ ماذا تفيد القراءة دون فهم أو عمل؟!.. دون اتخاذ الأسباب والمسببات؟!..

ماذا تفيد القراءة دون فهم أو عمل؟!.. دون اتخاذ الأسباب والمسببات؟!

هذا كله إلغاء للعقل وتهميش له. والله يقول ويكرر في كتابه الكريم: أفلا تعقلون؟! أفلا ينظرون؟! أفلا تتفكرون؟! أفلا يتدبرون؟! أفلا تسمعون؟!).

وعلا صوته: (يا أولي الألباب… يا أولي الألباب…).

تنهَّد شيخنا وأغمض عينيه… نظرَ الإخوانُ مشفقين، ثم تابعَ وهُوَ يهزُّ رأسَهُ:

(سبحان الله! إذا سألت أحداً: كيف حالك؟ كيف صلاتك؟ كيف قلبك؟ يُردِّد بأسى: “ماشي الحال، عم ندفِّش…” هذه الكلمات تحفرُ فراغاً في نفسك!.. في عقلك!.. لا تملؤوا عقولكم بالسَّخافات!… بالسلبيات والخرافات!… بالشهوات الطفولية!… املؤوا قلوبكم بالأسمى، لا ترضوا بالفتات!..

املؤوا قلوبكم بالأسمى، لا ترضوا بالفتات! واملؤوا قلوبكم بحب الله ورسوله ونصرة دينه

املؤوا قلوبكم بحب الله ورسوله ونصرة دينه… خطِّطوا لتعميق بناء الإسلام في كلِّ مَنْ تلتقون… إذا كنتم تملكون القدرة فمتى تفعلون؟… متى تبدؤون؟…

انتبهوا أن تتفلت زمام الأمور من بين أيديكم.. انتبهوا وحوِّلوا من حولكم من الأدنى إلى الأعلى.. انفحوا فيهم من روح الإيمان والإسلام).

نظر إليهم واحداً واحداً ثم قال: (الكل يخطط لنا الشرَّ والفساد، ومن مئات السنين… وبتصميم وبرنامج خبيث وميزانيات هائلة، ونحن غائبون.. غافلون.. مذهولون.. مشغولون بالأدنى، بسفاسف الأمور، بظواهر الأحكام وشكلية العبادات.

يا أبنائي، أنتم مسؤولون عن إعادة الروح الحقيقية للإسلام، وللنهوض بالجميع، لتكونوا رحمة للعالمين،{وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}([11]).

الدين يعالج المشكلات قبل وقوعها، كتحريم الخمر والزنا والربا، يداوي أسبابها قبل أن تصبح أمراضاً خطيرة… قبل أن يستشري خطرها في المجتمع ويستعصي الحل والمعالجة، ولكنها عندما تقع لا يقفُ مكتوف اليدين، بل لكلِّ حادثٍ ومشكلةٍ حلٌّ في الإسلام.

وصدق الله العظيم: { مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} ([12])، فاقرؤوا القرآن بتمعن:{ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}([13]).

وسيكون لكم شأن عظيم إن شاء الله، ولا تيأسوا، فاليأس لعبة الكسالى، اليأسُ موتٌ قبل الموت… اليأسُ هو فقدُ الإرادة، مما يثير العجز والكسل والعدم، وبقاء الأمر على ما هو عليه.

 المهم الولادة القلبية، الروحية، الإيمانية، العقلية، حتى نبدأ بالتغيُّر والتغيير).

ثم نظر إليهم بودٍّ وتوجَّه وتابع: (السابقون قصدوا وأرادوا وعملوا فكان لهم فوق ما أرادوا بفضل الله ورحمته… لا تكونوا كالأرض السبخة، لو نزلت عليها بحار السماء لا تنبت شيئاً… كونوا شمس بلادكم، كونوا كالغيث أينما تحلّون يزهر الربيع وتكون الظلال والثمار.

كونوا شمس بلادكم، كونوا كالغيث أينما تحلّون يزهر الربيع وتكون الظلال والثمار

وفقكم الله لتكونوا أطباء القلوب والعقول، لتكونوا الشفاء للمجتمع كله بكلِّ أجزائه وشرائحه.

وفقكم الله لتكونوا أطباء القلوب والعقول، لتكونوا الشفاء للمجتمع

جِدُّوا واجتهدوا واعملوا، فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون… واتقوا الله إن الله لا يضيع أجر المحسنين).

وختم حديثه بقوله: (آمل أن تحققوا ما أردته لكم، وما خلقكم الله له).

ودمعَتْ عيناه وأنَّ بصوتٍ مسموع، فتهيَّأ الأخوة والأخوات للسلام والذهاب ومسح وجهه وهو يردِّد: (وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين).

ربيع 1999

([1]) سورة البقرة، الآية: (282).

([2]) سورة الشمس، الآية: (9-10).

([3]) أخرجه ابن عدي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وصححه المناوي.

([4]) رواه الترمذي وأبو داود وابن ماجة وابن حبان في صحيحه، وفي رواية لابن النجار عن البراء: «العلماء يحبهم أهل السماء وتستغفر لهم الحيتان في البحر إذا ماتوا إلى يوم القيامة».

([5]) سورة البقرة، الآية: (282).

([6]) سورة الحشر، الآية: (18).

([7]) رواه الدارقطني في الأفراد، والبيهقي في شعب الإيمان عن البراء رضي الله عنه.

([8]) رواه الدارقطني في الأفراد، والبيهقي في شعب الإيمان عن البراء رضي الله عنه.

([9]) سورة سبأ، الآية: (13).

([10]) سورة محمد، الآية: (7).

([11]) سورة النحل، الآية: (93).

([12]) سورة الأنعام، الآية: (38).

([13]) سورة الأنفال، الآية: (45).

Order Online

Share via
Copy link
Powered by Social Snap