أول الغيث قطرة
وفد كنسي ألماني 13/10/1996
استقبلنا الوفد بالصالون ورحب بهم شيخنا فبادروا إلى شكره على استقباله لهم، قال رئيس الوفد: هؤلاء الضيوف “رعاة” في كنائسهم وعملهم الاتصال بالمسلمين في منطقتهم ومعظمهم من منطقة “وادي الراين” وهي منطقة صناعية يوجد فيها الكثير من المسلمين وخاصة العمال الأتراك، ونظر ملياً إلى شيخنا رحمه الله وأضاف:
الحقيقة أن جوارنا من المسلمين في منطقتنا شيء جديد وطارئ علينا وبدأ في السبعينيات، أتيناكم ونعلم خبرتكم في التعايش بين المسلمين والمسيحيين، ولنستفيد من هذه الخبرة ونتعلم منها، ونعلم سماحة المفتي اهتمامكم الدائم القديم بالحوار بين الأديان، ونحن سعداء جداً لاستقبالكم لنا هنا ولإتاحتكم الفرصة لنتحدث إليكم ونستفيد منكم. ابتسم شيخنا رحمه الله قائلاً:
أرحب بكم رجالاً ونساءً وأرجو لكم في سفركم وزيارتكم التوفيق والسعادة هاتوا ما عندكم؟
قال رئيس الوفد: كيف تنظرون سماحتكم إلى التعايش والوئام بينكم وبين المسيحيين في سورية حسب خبرتكم؟
شبك شيخنا أصابعه واعتدل في جلسته قائلاً:
التعايش بين المسلمين والمسيحيين الذي ترونه في بلادنا هو من منطلق تعاليم الإسلام، أمرنا الله بأن نقدس سيدنا المسيح كما تقدس سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وأن نؤمن برسالته وتعاليمه الأصلية كما نؤمن برسالة نبينا محمد وليس المسيح فقط بل بكل الأنبياء، وفي مواضع وردت في القرآن يقول الله عز وجل أن محمداً أتى مصدقاً لما بين يديه من التوراة والإنجيل كما نزلتا من السماء { آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ}([1]) [البقرة: 285].
أطل علينا شباب المزرعة يحملون الشاي الأحمر المعطر بماء الزهر فشرب منه الضيوف وقد أعجبوا برائحته العطرة.
أضاف شيخنا: في القرآن آيات كثيرة تعلمنا أن رسالات الأنبياء كلها واحدة تقوم على وحدانية الله، وتكريم الإنسان كل الإنسان بغض النظر عن دينه ومعتقده، لذلك تعاملنا مع الجميع ليس على أساس المجاملة بل على أساس تعاليم قوانين السماء الإلهية فالنبي محمد صلى الله عليه وسلم يقول: «أنا أولى الناس بعيسى ابن مريم في الأولى والآخرة» قالوا: كيف؟ يا رسول الله، قال: «الأنبياء إخوة من علات، وأمهاتهم شتى، ودينهم واحد، فليس بيننا نبي»([2]) والقرآن الكريم يقول: { شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ}([3]).
وفي الإسلام حرية المعتقد للإنسان أي إنسان لكن قد نختلف في بعض العقائد، فمثلاً نحن نعتقد بوحدانية الله بلا ولد ولا والد، ونعتقد أن المسيح لم يصلب ولكنّ الله رفعه إلى السماء كما ورد في إنجيل برنابا وغيره، فالإسلام في عهد الفتوحات يمثل الدولة العالمية ومع كل هذا الاختلاف ما ضغط الإسلام عبر التاريخ على مسيحي واحد فمنعه من عقيدته أو كنيسته، فالإسلام يحرم إكراه الآخرين على تغيير عقيدتهم ونحن نتعامل هكذا مع أبناء الدينين في بلادنا انطلاقاً من عقيدتنا ووصايا سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم الذي قال: «آلا من ظلم معاهداً أو انتقصه، أو كلفه فوق طاقته، أو أخذ منه شيئاً بغير طيب نفس، فأنا حجيته يوم القيامة»([4]).
أتى الإسلام موضحاً لرسالة السيد المسيح التي تتلاقى مع قول وأعمال الرسل “لا إله إلا الله الأحد” تلاقياً مع كلمة الإنجيل “لله وحده نسجد وإياه وحده نعبد” وإذا لم نلتقِ مع النصارى عصبية فالإسلام يقول: { لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ}([5]) المسلمون أحرار فيما يعتقدون والمسيحيون أحرار فيما يعتقدون ولم تتغير تلك المعاملة في التاريخ الإسلامي وعبر أربعة عشر قرناً لأنها عقيدة دينية سماوية إذا خالفها المسلم يأثم.
أتمنى شخصياً أن يعرف إخواننا المسيحيون جوهر الإسلام الصحيح لنتعاون معاً أمام الإلحاد وأمام بعد الإنسان عن ربّه الذي أوقعه في الجرائم والمسكرات والمخدرات والزنا فكان الإيدز والأمراض الكثيرة. فلنكن جماعة واحدة في بناء الإيمان الأصيل وإعادة الإيمان إلى مكانته الأصلية فالإسلام الآن يحتاج إلى تجديد والمسلمون عملياً بعيدون عن الإسلام، وكذلك المسيحية تحتاج أيضاً إلى هذا التصحيح وأن يدرس كل منها الآخر ولكن بالعودة إلى المنابع الأصلية لا من الواقع العملي. وأعتقد أنا قلبياً وروحياً أن هذا آتٍ وبلقاء المسيحية المتجددة والإسلام المتجدد وبالرجوع إلى الأصول يتحقق السلام العالمي يجب أن نعرف جوهر الدينين نحن نريد أن نشرب الماء من منبعه لا عندما يتكدر وتلقى فيه الأوساخ وبعد أن كان هذا الماء يهب الحياة صار يعطي الأمراض والبلاء. لذلك قويت شوكة العلمانيون والملحدون والشيوعيون والمسؤول عن ذلك هم رجال الكنيسة ورجال المسلمين، ولو عملنا بحكمة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم لَحُلَّ هذا الإشكال.
يقول رسولنا الكريم «من استوى يوماه فهو مغبون»([6]) استوى يوماه (بالعلم والمعرفة والعلم).
وتفاؤلي روحياً وقلبياً إلهاماً من الله أن اللقاء قريب والسلام لن يأتي من رجال السياسة إنما من رجال الله العقلانيين الروحانيين وأول الغيث قطرة.
([1]) سورة البقرة، الآية: (285).
[2])) صحيح مسلم: 2365 / كتاب الفضائل/ باب فضائل عيسى عليه السلام.
([3]) سورة الشورى، الآية: (13).
[4])) سنن أبي داود: 3052، كتاب الخراج والإمارة والفيء / باب في تعشير أهل الذمة إذا اختلفوا في التجارات.
([5]) سورة الكافرون، الآية: (6).
[6])) رواه الديلمي عن علي مرفوعاً.